في ختام «شاشات الواقع» قبل أسابيع، خيّم صمت ثقيل على الجمهور المحتشد لتحيّة عمر أميرلاي. ليس فقط بسبب الإحساس بالفقد المزدوج، بل تحت وطأة الدم الذي يسيل قاب قوسين من صالة «متروبوليس» لجهة القلب. السينمائي السوري الذي أغمض عينيه بالأمس القريب، بهدوء، على الثورات العربيّة، نسمعه هنا محاوراً، قبل زمن بعيد نسبيّاً، مسرحياً كبيراً يعرف أنّه سيموت، ويرى في السرطان الذي ينخره وجعاً سياسيّاً حقيقياً اسمه اليأس والفشل والهزيمة. لقد حلّ سعد الله بيننا في بيروت تلك الليلة، ليشهد على صحوة التاريخ الذي لم يعترف بـ«نهايته».الفيلم الذي صوّره صاحب «طوفان في بلاد البعث» مع سعد الله ونّوس في آخر أيّامه، بدا لنا فجأة عملاً رؤيوياً. أكثر منه وصيّة، مانيفستو للأيّام الآتية. كان لا بدّ من كل هذه السنوات إذاً، ومن أن تعصف بنا رياح الحريّة أخيراً، كي نسمع بطريقة مختلفة كلمات ونّوس المقّطرة، مثل الحبيبات الممطوطة الهاربة من صنبور الماء. «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدّث عنها المرء» فعلاً، وها هي الأحاديث المؤجّلة أو المستترة تدور أمامنا على الشاشة، في لحظة تجلّ.
هذا العام، نستعيد سعد الله في ذكراه (15 أيّار/ مايو ١٩٩٧)، كما لم نفعل من قبل. ترى ما كان ليشعر به اليوم؟ ما كان ليفكر، ليكتب، ليفعل؟ كثيرون في جيله الذي «يمضي إلى نهاياته» استقالوا، فيما هو حيّ يرزق. هم جزء من السائد، بتواطؤاتهم وتنازلاتهم، بامتيازاتهم وسلطتهم... وهو المستقلّ عن كل سلطة، ذكّرنا تلك الليلة بأن إسرائيل، الوحش الذي سرق حياته كما يقول في الفيلم، لم يكن ليهزمنا لولا حليفه الموضوعي الأكبر: البنى القمعيّة العربيّة.