ما إن نقرأ قصيدة صغيرة منجزة بسطرين أو ثلاثة سطور، حتى يقفز الهايكو الياباني أوتوماتيكياً إلى أذهاننا. هذا ما يحدث في مجموعة «تحت الشمس يهطل الرَّوث» (دار النهضة)، وهي الخامسة لجوزيف عيساوي. يتعمّد الشاعر والإعلامي اللبناني أن ينسج على منوال الهايكو، مستثمراً الكثافة في المعنى، والاقتضاب في الكلام، من دون التقيّد بالشروط التقليدية الراسخة لهذا الشعر طبعاً.منذ بداياته، لم يُخفِ عيساوي استحسانه وشغفه بحماية الشعر من الثرثرة غير المجدية والاستطرادات التي تُرهِّل اللغة. نكاد لا نعثر على قصيدة واحدة يمكن اعتبارها طويلة في مجموعاته الأربع السابقة. ما نقرأه في المجموعة الجديدة، أشبه بخلاصات مكتنزة لشخص يتأمل العالم من زاوية خاصة، ويلتقط ما هو موارب ومهمل وزائل في الجريان الأزلي للحياة اليومية. البناء شبه الموحد للقصائد لا يعني أنها متشابهة في المغزى والنوعية. نلاحظ تفاوتاً يمكن القول إنه طبيعي ومبرر في مجموعة تضم مئة وستاً وثلاثين قصيدة. التفاوت هنا يعود إلى ذائقة كل قارئ أو حماسته لقصائد معينة، وفتوره اتجاه قصائد أخرى. القصد أن المجموعة محكومة بتفاوت مينيمالي غالباً. لا تُحسّسنا القراءة أننا ننتقل بين مستويات متباعدة.
هناك نضجٌ واضح يسري في جسم الكتابة ويحفظها من السقوط في الركاكة والعادية. هناك قصائد قريبة جداً من روح الهايكو، كما في قصيدة «الأفق» التي يهديها عيساوي إلى شعراء الهايكو: «ناحية الشمال/ ترحل الطيور/ صوت الوقواق المستوحد/ يهدم الأفق عليها»، أو في «الخريف»: «يا للسعادة/ إنّه الخريف/ داء المفاصل حمل إليّ الخبر»، أو في «سهام»: «أطلقُ سهامي نحوها/ ندف الثلج/ واهماً أني أرنّحها». الطبيعة وعناصرها لا تحضر بالطريقة ذاتها في القصائد الأخرى. قد نقرأ قصائد تُستثمر فيها الطبيعة، لكنّها لا تحيلنا على نحو بديهي على الهايكو، كما في قصيدة بعنوان «شعر»: «في الغابة/ سعيداً/ يقرأ شعره للثلج»، أو «تلك الجبال/ أقدام آلهة/ كانت».
في قصائد أخرى، نرى ميلاً معاصراً وحديثاً في ابتكار صور واستعارات تتساوى مع القصائد التي تحتضنها. في قصيدة «معبودة» نقرأ: «الكرة المعبودة/ في الملعب/ تُركل وتُركل»، وفي قصيدة «قلوبهم»، نقرأ شيئاً مختلفاً بمعجم الكرة نفسها: «كرة العشاق/ القمر/ كثيرة الأخاديد/ من ركلات قلوبهم». إلى جانب ذلك، لا يغيب الجانب الديني الذي حضر أكثر من مرة في أعمال الشاعر، وخصوصاً في مجموعته الرابعة ذات العنوان الديني المباشر: «القديس X»، لكن الدين موجود هنا وفق منظور شخصي قابل للّعب والتساؤل والهرطقة المحبَّبة.
في قصيدة «الإنسان»، يكتب الشاعر: «أن أكون الإنسان/ وتكون الإله/ تمييزٌ آخر»، ثم يُكمل: «وإذا ناداني صوته/ أأطعن صوتاً/ ناداني؟». وفي قصيدة تالية يقول: «نذرتُ لقديسين/ بشفاعات شتى/ أعطالي لست مسؤولاً عنها». الدين أو العلاقة مع الخالق هي موضوع شعري مثلما هي عناصر الطبيعة والسيرة الشخصية ونثريات الواقع المتكررة. لعل تأويل ذلك كله مدسوس في قصيدة «مصنع»، التي تختزل العلاقة بين الشاعر والكتابة: «ذبابةٌ على دفتر أشعاري/ لعلها تفرُّ/ من مصنع القصيدة».