سقط الشاب حليق الرأس على الأرض، فردّت الحشود المتلاصقة: «آه وآه يا مصر. لسّه فيكي سجون وقصر». تسلّقت الشابّة فوق ظهر العامل، هتفت: «خبز. حرية. عدالة اجتماعية»، فرسم هو علامة النصر في الهواء. على بعد خمسة سنتيمترات، غطّت الدماء وجه الرفيق الذي كان يقود الصفوف في اليوم الأول للثورة. ناوله عسكر الديكتاتور ضربة على الرأس. يأخذ مكانه آخرون. في مقاطع لاحقة من «جدارية الثورة»، يسقط العامل والطالب بطلق ناري في الرأس... فيسقط النظام. في مقاطع سابقة، حرّض التشكيلي الجماهيري طه القرني شعب «سوق الجمعة» و«المولد» على الزحف من المحلّة والسويس والإسكندرية وأسيوط إلى النقطة نفسها التي يمتزج فوقها دم الشهداء مع الأعلام المبهجة واللافتات والملابس البراقة. الآن يرسم جداريته الجديدة بشغف من يراها «ثورة فن تشكيلي 100%».
رسم طه أول خطوطه الثورية عندما كان في الثامنة، وقت اندلاع حرب أكتوبر مع العدو الإسرائيلي عام 1973. تسلل من بيته فجراً إلى سوق الجمعة في حي إمبابة الشعبي، حيث كان يقطن. اشترى خوذة للرأس، وبذلة عسكرية أكبر من مقاسه. «كان منظري مضحكاً». من بعض قطع الخشب، صنع بندقية وهميّة. «كنت أحرس المارّة، ونبّهتهم إلى دهن زجاج النوافذ باللون الأزرق تحسباً للغارات». ستمثّل هذه الخطوط بعد 39 عاماً نقلة مهمة في حركة الفن التشكيلي المصري الذي سينتقل من مربّع الفني الجمالي إلى التعبيرية الممزوجة بلمسات انطباعية. راحت ألوانه تنقل رسائل من يعيشون في متاهات القهر، وتحرضهم على إبداع الخلاص.
هنا يظهر مخبرو أمن الدولة في الصورة: «منعوا عرض جدارية «سوق الجمعة» في الشارع خوفاً من أن تصل الرسالة إلى الناس. أبطال الجدارية جمعوا جنيهاً من كل واحد لعرضها. احتجزني الأمن ساعات، وهدّدني بالاعتقال مرّات عدّة». لم يهدأ. عرضها في المسرح الصغير في دار الأوبرا عام 2007. كان الجمهور ـــــ ولأول مرة في تاريخ هذا المكان البارد ـــــ من أبناء السوق. وكان للدراويش والمقبقبين والمنشدين الحظ نفسه عند عرض جدارية «المولد» عام 2008.
ظلَّ الفن التشكيلي المصري الذي يعود تاريخه إلى تاريخ الرسم على جدران معابد الفراعنة، واقعاً في أزمة خلق صداقة مشتركة مع العامة، خلال قرن ونصف القرن... إلى أن نضج مشروع طه القرني مع بداية الألفية الثالثة. «كان يجب أن يعود الأمر إلى أصله» يقول. يتأمل مرسمه الخاص وجدارية «سوق الجمعة» التي أدخلته موسوعة «غينيس للأرقام القياسية»، بعدما حازت لقب أكبر جدارية في العالم. يدقّق في ملامح وجه الرجل المتعرّق الذي يبيع الخرضوات في السوق، ويقول: «هو الرجل نفسه الذي باع لي الخوذة».
في جدارية «المولد» التي يجاوز عرضها 32 متراً ويصل ارتفاعها إلى 1,4 متر، يرفع ملايين الناس مظالمهم للصدى: «ينتظرون ردّاً لا يجيء أبداً، لكن الكل سواء». حمَلة المباخر يتجوّلون. العجزة والشباب في حلقات الذكر يتمايلون. نساء يتضرّعن بدعاء غير مفهوم، وامرأة عجوز أعيتها خيبة الرجاء فأخذت تدخِّن ما بقي من سيجارتها. أعلام خضراء وسوداء، والكل يعبّر في حرية مشروطة بعدم اختراق سماء الغيبوبة وتلفيقات النشوة الروحية. «كلُّ هذا التشوّه انقشع في جدارية الثورة».
بعد تخرجه من الجامعة (1989)، تكوينات طه القرني وألوانه، تأثرت بصبري راتب وحسين بيكار من مصر، والفرنسي أوجين دولاكروا الذي رسم «الحرية تقود الشعب»، والمكسيكي الثوري دييغو ريفيرا الذي جسَّد في جدارياته ولوحاته معاناة الطبقات الفقيرة في أميركا اللاتينية. يقول إنّ لوحة «حامل الأزهار» التي رسمها ريفيرا عام 1935، هي من أكثر اللوحات التي تأثر بها في رسم لوحته «مصر المكلومة» (2010). في الأولى، يكاد ينكسر ظهر العامل، حامل صندوق الأزهار الثقيل، وفي الثانية ينحني جسد المرأة العجوز من ثقل تواريخ القهر. وفي خلفية اللوحة، رموز مصريّة تحرّض أبناء الأمّ على فكّ القيد.
«رفضت كل الصحف نشر هذه اللوحة، وعندما نشرتها جريدة «العربي» الأسبوعية، لم يتوانَ ضباط أمن الدولة عن ملاحقة القرني الذي يستعدّ نهاية هذا العام لعرض «جدارية الثورة» في ميدان التحرير وميادين الثورة الأخرى، مجسّداً فيها هزيمة جهاز القمع الذي طارد أفكاره.
يعود طه القرني بذاكرته إلى الوراء، وتحديداً إلى عام 1976، فيتذكَّر الراحلين الشيخ سيّد مكاوي والشاعر صلاح جاهين اللذين رسمهما في المقهى بصحبة الوالد، المبتهل في الإذاعة حينها. «قال جاهين لوالدي إن هذا الطفل لديه حسّ شعبي، دعه وحاله». عام 1983، هرب المراهق من أسر الوالد الذي أراده عالماً أزهرياً. «هربت إلى البحر، وقضيت خمس سنوات في الإسكندرية، وهناك دخلت كليّة الفنون الجميلة». في مرسمه الخاص حيث يعلِّم الكبار فنّ التعبير بالرسم، يهرب بجنونه إلى آفاق أوسع. يستمع إلى تسجيل حيّ لأصوات معارك الثورة: «كنت هناك أبيت في الميدان، أهتف، وأناول الشباب طوباً لمواجهة الرصاص».
لم يحصل طه القرني على أيّ جائزة من الدولة، لأنّه لم يتقدّم أساساً لأيّ مسابقة رسمية. يرى ذلك إهانة للفنّ الحقيقي. المدهش في عمله مثلاً، أنّ مقاطع «جدارية الثورة» لا تحتوي ملمحاً واحداً للديكتاتور مبارك، ولا تعكس أي انفعال على وجوه رجاله. «رسم مبارك إهانة شخصية للثورة، ورجاله مجرّد آلات فارغة من قضيّة».
قبل أشهر، رفض طه القرني طلباً من رجال قصر الرئاسة لرسم بورتريه للرئيس المخلوع بعد عودته من رحلة علاج أخيرة. «توعّدوني كما لم يفعلوا من قبل».
في نهاية كل يوم، يترك طه ريشته في المرسم. يظلّ في المقهى حتّى ساعات متأخّرة من الليل، يدخّن النارجيلة ويتسامر مع أبطال أعماله.



5 تواريخ


1965
الولادة في حيّ العمرانيّة
(محافظة الجيزة)

1989
نال بكالوريوس الديكور التعبيري
من «كلية الفنون الجميلة»
في «جامعة حلوان»

2007
دخل «موسوعة غينيس للأرقام القياسية»
بجداريته «سوق الجمعة»،
وهي الأكبر في العالم

2008
عرض جدارية «المولد»
في دار الأوبرا

2011
يضع اللمسات الأخيرة
على جدارية الثورة المستلهمة
من يوميّات «ميدان التحرير»