ساحر يدرك أنّ مهنة ألعاب الخفّة في طور الانقراض، فيغادر مسارح باريس إلى ريف بريطانيا، بحثاً عن جمهور محتمل. هناك، تجمعه دروب الوحدة بأليس التي تقتنع بأنّه يتمتّع بقوى خارقة. بعيداً عن أوهام الفتاة، يعيش صديقنا أفول مجده، وسط هجمة الروك على ميدان الاستعراض، في أواخر الخمسينيات.
مساء أمس، افتتح «الساحر» (2010) لسيلفان شوميه الطبعة الثانية من مهرجان «بيروت متحركة». الشريط الذي رشّح لأوسكار أفضل فيلم تحريك، مقتبس عن سيناريو للمعلّم الفرنسي جاك تاتي (1907 ــــ 1982)، كتبه رسالةً لابنته، لكنّه لم يجد طريقه إلى السينما إلى أن أعطاه شوميه حياة جديدة. جمهور «متروبوليس أمبير صوفيل» وجد نفسه أمام عرض يصوِّر العلاقات الإنسانية المعقّدة، على طريقة «الخال» الأثيرة: شخصيات هشّة ترتبك في كواليس الـ«شو بيزنس»، ساحر كهل يلاحق أرنبه الذي قرر الفرار من القبعة قبل ثوان من بدء العرض، وفنون فرجة تقليدية تجتاحها آلات الإبهار الضخمة.

اختيار «الساحر» لافتتاح النسخة الثانية من المهرجان المخصص لسينما التحريك، يؤكّد تمسّك جمعيّة «متروبوليس» ومجلة «السمندل» بمستوى مقنع من الاحترافية، لاحظناه خلال الدورة الأولى في خريف 2009. عملان روائيان طويلان، وأكثر من 20 شريط تحريك قصيراً، من لبنان والعالم العربي، سيفوز أحدها بجائزة الجمهور، إضافةً إلى ورش عمل متخصصة هي جزء مما يقترحه «بيروت متحركة 2» الذي يختتم في 7 أيار (مايو) الحالي مع الكندي بيار إيبير. يقدّم رائد التحريك الشهير عمله «وحدها اليد...» القائم على فعل المحو، إضافةً إلى «49 ذبابة»، وهو تسجيل طويل لطنين الذباب، سيواكبه مازن كرباج في عزف حي مُرتجل. إلى جانب إيبير، يقترح المهرجان عروضاً دولية مهمة بين أفلام روائية تعرض بالتعاون مع «مهرجان أفلام التحريك الدولي في سلوفينيا ـــ أنيماتيكا»، وأعمال تحريك وثائقية يقدّمها مهرجان «دوك ـــ لايبزغ للفيلم التسجيلي وفيلم التحريك».
بعد نجاح التجربة في الدورة الأولى، صار «بيروت متحركة» أكثر من مجرّد منصة للتلاقي بين فناني التحريك في لبنان. الأفلام القصيرة المشاركة من لبنان وسوريا ومصر وتونس، قد تكون مؤشراً إلى بروز تيار طليعي في المجال على الساحة المحليّة والعربيّة. كأنّ هذه الخلطة بين الكوميكس، وفنون التحريك على أنواعها (ثنائية وثلاثية الأبعاد، رسم، دمى، طين...) تمنح منفذاً للفنانين الشباب، وتحررهم ـــــ ولو موقتاً ـــــ من أزمة الإنتاج المستديمة. الميزانيات المتقشفة تحفز على استخدام وسائط تعبير غير تقليدية: قد لا يحتاج الفنان لإنجاز شريط تحريك، إلى أكثر من كومبيوتر محمول، و... بعض القدرات «السحريّة». هكذا يمكنه مثلاً أن يشقّ برج المرّ إلى نصفين، ويخرج منه ألسنة لهيب قرمزيّة. هذا ما تخيّله عمر خوري من فريق «السمندل» على ملصق المهرجان، وبنى عليه أليكس بلدي وديما بولاد والفدز ومي غيبة وإيزابيل نُزهة، تصوّرهم للشريط الذي يعلن الحدث. في ثلاثين ثانية، تنمو بيروت أمامنا، ويتنازل البرج الشهير عن موقعه شاهداً عنيداً على جرائم كثيرة. ينشقّ البناء الشاهق إلى نصفين، ويتقيأ فضلات العاصمة: سيارات قديمة، بيوتاً أثرية، مبنى «الدوم»... ثمّ تظهر رافعات الإعمار في المشهد، وتنتشل كلمة «بيروت متحركة» من القعر. كأنّ هؤلاء الشباب يقولون لنا: نحن قادرون على اختراع واقع مواز، وقولبة أكثر عناصر الذاكرة الجماعية إيلاماً، من خلال الكوميكس والرسوم المتحركة. ينسحب هذا التحدي على الأعمال اللبنانية العربية المبرمجة. سمر مغربل تقولب أحلامها الخاصة في «درس الفرنسي» (٥٠،٣ د ـــ دي في كام/ ٢٠١١). تروي الفنانة سيرتها الذاتية عبر تصوير طفل مشغول بالطين، يقرأ «بائعة الحليب»، إحدى قصائد لافونتان. تحكي القصيدة الأمثولة عن امرأة تحلم بالأرباح التي ستجنيها من بيع جرة الحليب، قبل أن تنكسر الجرّة ويضيع كل شيء. من جهة ثانية، يتخيل زياد عنتر رمزية هزلية للواقع اللبناني في شريطه «فاماغوستا» (دقيقة ـــ ميني دي في/ ٢٠١٠) على ورقة بيضاء يرسم حمارين مربوطين بعضهما ببعض، يحاول كلّ منهما بلوغ شجيرة، لكن من دون جدوى! حتى «الجزيرة» لم تسلم من مبضع مخرجي أفلام التحريك العربية التي يقدّمها البرنامج البيروتي. «يوم الغضب» للمصري محمد صلاح يمزج لقطات واقعية من ميدان التحرير، بمشاهد تحريك، بطلها عنصر من شرطة مكافحة الشغب، وسط نقل مباشر للفضائية القطريّة. تبدو أعمال المحركين اللبنانيين والعرب أداةً لتوثيق الراهن، وحاضنةً لذكريات وأحلام حميمة. إلى جانب العروض، يقترح «بيروت متحركة 2» برنامجاً غنياً: ضمن تظاهرة «كارت بلانش»، توجّه لينا غيبة تحية إلى فريق قسم التحريك في «تلفزيون المستقبل»، وفي مقدمتهم جورج خوري (جاد)، وبهيج جارودي، وفولفيو قدسي... على البرنامج ورشتا عمل ومعرض تكريمي لأحد رواد الكوميكس والتحريك في لبنان الراحل إدغار آحو، واستعادة لافتة لبدايات فن التحريك في مصر مع أعمال الإخوة فرنك لخلال الثلاثينيات...
لكنّ الموعد الأبرز سيكون ما تقترحه «السمندل» من عروض لكلاسيكيات التحريك الياباني المدبلجة إلى العربيّة. إنّه الموعد المرتقب بين «جونغر»، و«ساسوكي»، و«ريمي»! إذا كنت في بيروت فلا تدع الفرصة تفوتك!


«بيروت متحركة 2»: حتى 7 أيار (مايو) الحالي ــــ «متروبوليس أمبير صوفيل». للاستعلام: 01/204080