«...سيقع الانفجار الكبير، وستكون نهاية اليوطوبيات كافةً، وبدايةً لواقع يتخطى البشرية». حول كلمات هاينر موللر هذه، يبني المسرحي السوري الشاب أسامة غنم عرضه «حقل التنقيب». لن نظلم الأعمال الأخرى على برنامج «نقاط لقاء 6» إن قلنا إنّها تنسجم مع المزاج ذاته. قراءات متشعبة للراهن، يقترحها أكثر من 30 فناناً وفنانة، ضمن التظاهرة المخصصة للفن المعاصر. بدعوة من «صندوق شباب المسرح العربي» (مقرّه بلجيكا/ راجع الإطار)، سيتحول «مركز بيروت للفن» إلى حقل تنقيب حقيقي، ابتداءً من اليوم حتى 7 أيار (مايو). على الحدود الفاصلة بين السياسي والثقافي، يحتضن الفضاء البيروتي سوق عكاظ فنياً، يشمل معرضاً للصور الفوتوغرافية والتجهيزات والفيديو، تواكبه على مدى ثلاثة أيام عروض أداء ورقص، وقراءات مسرحيّة. عمل المدير الفني للتظاهرة أوكوي إنويزور على إعداد البرنامج طيلة سنة ونصف، ليمنحه في النهاية عنواناً عريضاً هو «مواقع للنضال: منطق وممارسات مدنية». لاحظ الناقد ومنسق المعارض النيجيري الأميركي الشهير هماً مشتركاً لدى ممتهني الفن المعاصر في المنطقة، على اختلاف توجهاتهم: إنّها محاولتهم الدائمة لخلق «تخيّلات مَدنية» للواقع والتاريخ، على تخوم ذلك الصراع الأزلي بين التقليد والتحديث. «كأنّ الممارسة الفنية تحولت إلى وسيلة للشهادة على المتحول. كأنّ الفن صار الميدان الوحيد الممكن لإدخال السياسي العصي على الفهم إلى الحيّز الذاتي»، يقول إنويزور. انطلاقاً من هذا التصور النظري، سيتخذ فضاء «مركز بيروت للفن» شكل الأغورا اليونانية القديمة. وسط تقشف بصري مقصود، سيجد الجمهور نفسه أمام عروض حية متواصلة، أشبه بتمارين غير مكتملة. سينزل الرقص والمسرح عن الخشبة للقاء الجمهور في زوايا المكان، كأنّنا أمام ورش عمل، أو تجارب أداء، لا عروض تقليدية... يمكنك مثلاً أن تلتقي رضوان المؤدب وهو يتمشّى في أحد الأروقة، قبل أن يبدأ بالرقص أمامك. المصمم والراقص التونسي يقدّم عرضه الجديد «تونس يوم 14 جانفي 2011»، ويستلهمه من تجربة خاصة. العمل تجسيد لحالات النشوة والصدمة والقلق والذنب التي يمكن أن يعيشها تونسي شهد الثورة، لكن من بعيد. شحنة سياسية أكبر تحملها أعمال منى حاطوم. الفنانة الفلسطينية البريطانية تستعيد سلسلة من عروضها الأدائية التي أنجزتها خلال الثمانينيات، وجاءت محمّلة بندوب النكبة من جهة، وجراح الحرب الأهلية اللبنانية من جهة أخرى، ومنها «طاولة المفاوضات» (1983)، و«إصلاحات في الطريق» (1985)... لن تتمكن حاطوم من المشاركة في البرنامج البيروتي بسبب عارض صحي طارئ، لكنّ عروضها ستقدّم كاملةً بجهد المخرج السوري الشاب رامي فرح. ريما مارون تحمل من جهتها جراح أطفال حرب تموز 2006، في سلسلة صور فوتوغرافية بعنوان «همسات» أبطالها أطفال يديرون وجوههم بعيداً عن العدسة، صوب الجدار.
من المواعيد المهمة على برنامج «نقاط لقاء 6»، قراءة من سيناريو لعمر أميرلاي (1944 ـــــ 2011)، كتب عام 1980 ولم يجد سبيله إلى السينما. قبل وفاته بأشهر، وافق السينمائي السوري الراحل على إخراج نصّ «القرامطة» من الدرج، ذاك الذي كتبه بالتعاون مع زميله ومواطنه السوري محمد ملص والروائي المصري صنع الله إبراهيم، على أن يتولى المخرج والممثل السوري عروة نيربية قراءته.
بصمة الثورات العربية فرضت نفسها على أكثر من عمل، وقد يكون أكثرها تشويقاً مشروع المسرحي السوري عمر أبو سعدا في مسرحة نصين للصحافية والكاتبة أهداف سويف، نشرتهما في صحيفة «غارديان» البريطانية، وتسرد فيهما تجربتها في ميدان التحرير. أيضاً، سيستخدم أبو سعدا في عرضه «انظر إلى الشوارع... هكذا يبدو الأمل» تعليقات آنية عن صفحات «فايسبوك»، عن الاحتجاجات الدامية في سوريا. المعمار اللبناني طوني شكر سيلجأ بدوره إلى «فايسبوك» ليقدّم محاضرة/ عرضاً بعنوان «مئة حالة من العزلة»، في محاولة لفهم عزلة من عاشوا الثورات المتنقلة في غرفهم أمام شاشة الكمبيوتر.
معظم الأعمال على برنامج «نقاط لقاء 6» تستقي مادتها من الواقع المأزوم في زمن انهيار منظومات الخوف العربيّة. هل ستنجح في ردم الهوة المعتادة بين الفنون المعاصرة والإعلام الجماهيري؟ لطالما تعاطت الثقافة الشعبية مع الـContemporary بوصفه حفنةً من الأشياء المبهمة، والمصطنعة، والعصيّة على الفهم. و«في سياقات عربية مشتعلة، قد يكون الفن المعاصر ترفاً غير مرحب به أساساً»، يعترف أوكوي إنويزور. «لكنّه يبقى دعوة إلى التفكير وهزّ المسلمات»، يقول مستدركاً. «المسألة برأيي ليست في مدى حضور الفن المعاصر جماهيرياً، بل في قدرته على الذهاب أبعد من الميديا، وخلق أطر جديدة للمعرفة، تتسلل إلى وعينا، وتؤثر على فهمنا للواقع والصورة».

«نقاط لقاء 6»: 6:00 مساء اليوم حتى 7 أيار (مايو) ـــــ «مركز بيروت للفن» (جسر الواطي). للاستعلام: 01/397018
www.meetingpoints.org



على الموضة

عام 2004، بادر مدير «صندوق شباب المسرح العربي» طارق أبو الفتوح إلى إطلاق مشروع «نقاط لقاء» في محاولة لإحياء سلسلة مواعيد فنية فصليّة، بين مدن عربية وأوروبية عديدة. بعد دورة 2007، تحوّلت التظاهرة إلى موعد فني ثابت، يُنظّم كلّ سنتين، ويتولّى برمجة كلّ دورة من دوراته مدير فني مختلف. ستمتدّ أنشطة «نقاط لقاء 6» حتى آذار (مارس) 2012. بعد الانطلاقة الكبرى في بيروت الليلة، ستكون هناك إطلالة أردنيّة خاطفة في فضاء «مكان» (2 ـــــ 4 أيار/ مايو المقبل). الظرف السياسي المتوتر أدّى إلى تأجيل عروض دمشق والقاهرة وتونس حتى الخريف المقبل، تواكبها مواعيد مماثلة في بروكسل وبرلين وأثينا.
أبو الفتوح الخبير في توجهات الفنون المعاصرة يبدي خشيته من تحوّل الفن العربي المعاصر إلى موضة، بعد فترة الاستقطاب السياسي الحاد التي نعيشها. «هذا سيعني فورة في الإنتاج، على أمل ألّا ينجرّ الفنانون كثيراً إلى منطق السوق على حساب المضمون».