ينجح بيتر وير (1944) عادة في البقاء على الحافة، بين الطابع التجاري الجماهيري للسينما الهوليوودية، وجماليّات سينما المؤلف. هذا التوازن الذي يحافظ عليه في معظم أفلامه، يجعل ذلك الخيط الفاصل الرفيع ما بين الفئتين مبهماً لدى الجمهور. يضع السينمائي الأسترالي المشاهد في توازن يبقيه ثابتاً في لعبته مع الصورة السينمائية، وسط سيناريوهات مثيرة تعنى بالمواقف العصيبة للإنسان، سواء في صراعه مع الطبيعة أو مع معضلات أخلاقية مفترضة.
تتجلّى مهارة بيتر وير هنا، بمنح المشاهد قصة مشوّقة، بتقنية سينمائية لا تقامر على حساب الفن. حافظ على تلك المعادلة، منذ بداياته مع الموجة الأسترالية الجديدة، من خلال أفلام مثل «السيارات التي أكلت باريس» (1974)، إلى حين نجاحه في اختراق السينما الأميركية والعالمية بأفلام مثل «سنة العيش بخطر» (1982)، و«شاهد» (1985)، و«جمعية الشعراء الراحلين» (1989) و«عرض ترومان» (1998).
بعد فيلمه «ماستر آند كوماندر: الجهة البعيدة من العالم» (2003)، الذي تدور أحداثه خلال احدى حملات نابليون بونابرت، يعود بيتر وير بشريط درامي عنوانه «طريق العودة». كتب السينمائي الأسترالي السيناريو مع كيث كلارك، وهو مقتبس عن رواية لمعتقل بولندي سابق في الغولاغ السوفياتي بعنوان «الرحلة الطويلة». تحكي الرواية عن هروب مجموعة من المعتلقين من سجن سيبيري قاس، ومحاولتهم الوصول إلى الهند سيراً على الأقدام، إذ يقطع هؤلاء 4000 ميل وسط الطبيعة القاسية.
القصة تبدأ عام 1939، مع احتلال هتلر بولندا من الغرب، واحتلال ستالين لها من الشرق. يحقق مع السجين البولندي يانوش (جيم ستارغس) ضابط روسي يحاول انتزاع اعتراف منه بالخيانة. لاحقاً، يحكم على يانوش بالسجن 20 عاماً في الغولاغ السيبيري، وهناك يتعرف إلى مساجين آخرين: أسير أميركي هو السيد سميث (إد هاريس)، مجرم روسي اسمه فالكا (كولين فاريل)، خاباروف (مارك سترونغ) وآخرين. يقرر أفراد هذه المجموعة الهروب من المعتقل القاسي وفق خطة من خاباروف... يتجهون جنوباً لعبور بحيرة بايكال وصولاً إلى منغوليا.
يدور الفيلم بمجمله، على امتداد الساعتين تقريباً، حول عملية الهروب هذه. تلاحق الكاميرا المعتقلين الفارّين من بيئة المعتقل القاسية إلى الطبيعة الأقسى، وسط المرتفعات والمناخات المختلفة من الجبال والعواصف الثلجية السيبيرية، إلى قسوة الصحراء بشمسها وجفافها. ما يريده بيتر وير في هذا الشريط ـــــ وما يلجأ اليه عادة في معظم أفلامه ـــــ هو فحص الأثر الذي ينتج من المواقف القاسية التي توضع فيها شخصياته. ثنائيات متعددة تتواجه، وفي طريق العودة، يصير الصراع بين الإنسان والطبيعة، ثيمة الشريط الرئيسية.
وكما كانت جمالية الصورة واضحة في «سيد وقائد»، يعتمد الفيلم هنا أيضاً على جمال المساحات الواسعة التي تخدم العمل بما هو أحد أبعاده الرئيسية. تطغى برودة هادئة على معظم الأحداث، وهذا ما يعتمد عليه وير في محاولته لإبعاد الملل عن المُشاهد، إضافةً إلى الأداء الجيد لطاقم الممثلين رغم بعض التكلف في اللهجات. هنا يجدر الأخذ في الحسبان أنّ معظم الفيلم هو عبارة عن رحلة ملحمية شاقة على الأقدام، مع معرفتنا مسبقاً بنتيجتها.
يبقى أن وير لم يوفّق في سعيه إلى إنشاء رابط عاطفي بين شخصياته والمشاهد. فقد آثر الابتعاد عن سرد خلفيات الشخصيات، وإن فعل فوفقاً لرؤية سطحية. وهذا الرابط عنصر مهم جداً في عمل يستند كلياً إلى ثقل الشخصيات، ورؤيتها للعالم. هذا ما يترك مساحة باردة للمشاهد تحول دون انغماسه التام في العمل... تنتهي الرحلة بنهاية مليئة بالكليشيهات، بعد أمثولة سياسيّة واضحة الأبعاد والمرامي.



«طريقة العودة»: «سينما سيتي» (بيروت). للاستعلام: 01/899993