برلين | سجل معرض «الآلهة الناجية من قصر تل حلف» في الأسابيع الثلاثة الأولى من افتتاحه في كانون الثاني ( يناير) في «متحف بيرغامون للحفريات التاريخية»، حضوراً تجاوز خمسين ألف زائر. عند الدخول إلى الصالة الأولى من جناح المعرض، يفاجأ الزائر بألواح خشبية تتناثر فوقها حجارة من مادة البازلت. والهدف هو التذكير بحال هذه المعروضات الأثرية السورية، بعدما ضربت طائرات الحلفاء المتحف عام 1943 بقنبلة فوسفورية أثناء غاراتها على برلين النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
ليس «الاحتفال» هنا بـ «الآلهة الناجية» بقدر ما هو احتفال بحياة البارون الألماني ماكس فون أوبنهايم (1860 ـــــ 1946)، وبمعجزة إنقاذ قسم من هذه الآثار التي عُثر عليها في منطقة تل حلف، على الضفة الغربية لنهر الخابور، بالقرب من رأس العين (شمال شرق سوريا)، التي يقدّر عمرها بثلاثة آلاف سنة. استمر التنقيب لسنوات (1911 ـــــ 1913 و1927 ـــــ 1929)، تخللته فترات انقطاع بسبب الحرب العالمية الأولى والصعوبات اللوجستية. تجاوز عدد أفراد فريق التنقيب الـ 500 من أهل المنطقة وعلماء آثار غربيين ومصور كان يصطحبه أوبنهايم معه. بعد انتهاء العمليات، بقي قسم منها في متحف حلب. أما القسم الأكبر، فاستولى عليه أوبنهايم وشحنه إلى حلب على متن 13 عربة قطار، ومن هناك إلى ألمانيا. كان أوبنهايم يرغب في افتتاح معرض كنوز تل حلف في 15 آب (أغسطس) عام 1930، الذي صادف عيد ميلاده السبعين. وكان له ذلك، لكن ليس في «متحف بيرغامون» التابع للدولة، بل في متحفه الخاص الذي أقامه في مصنع قديم في منطقة شارلوتنبورغ. كرس جزءاً من المعرض لسيرته الشخصية، وهو سليل عائلة مصرفية أرستقراطية. درس القانون وتعلم العربية وشغف بالشرق الذي زاره للمرة الأولى عام 1886 عندما حلّ في المغرب، وتلته زيارات إلى العراق ومصر قبل أن يُعيّن دبلوماسياً في مكتب القنصلية الألمانية في القاهرة (1896).
لكن البارون ترك عمله بعد عشر سنوات ليكرس وقته للسفر والتنقيب عن الآثار. أثناء الحرب العالمية الأولى وفي فترات تلتها، عمل رئيساً لمكتب استخبارات الشرق الألمانية في إسطنبول، لكن المعلومة الأخيرة تغيب عن المعرض الذي يبتعد عما هو إشكالي في سيرة الرجل، ويركز على أوبنهايم الإنسان والباحث. هكذا تأخذنا الصور الفوتوغرافية المعلقة في بعض الصالات إلى رحلاته في العراق، وفلسطين، وسوريا. إضافةً إلى صور أخرى تظهر المتحف الأول لآثار تل حلف في برلين، وانطباعات المشاهير الذين زاروه قبل أن يُقصف. ومن هؤلاء الملك فيصل الأول، والروائيّة أغاتا كريستي، والكاتب المسرحي صموئيل بيكيت.
يدخلنا المعرض بعدها إلى حيثيات استخراج هذه الآثار للمرة الثانية. كان أوبنهايم قد أوصى بجمع ما بقي من أشلاء الآثار بعد القصف، وقد وصلت إلى 27 ألف قطعة ووضعها في صناديق في قبو «متحف بيرغامون». وكان عليها أن تنتظر أكثر من 50 عاماً كي يبدأ العمل مجدداً على تأهيلها بتكليف من «مؤسسة أوبنهايم»، وبتمويل من «متحف بيرغامون». بعد ذلك، نصل إلى ما عثر عليه من تل حلف. تطالعنا الآلهة في القاعة بتماثيلها الرابضة، إضافةً إلى منحوتات وزخارف تمثل أنصاف آلهة وحيوانات وطائر العنقاء وغيرها مما له علاقة بمعتقدات هذه الحضارة، التي تعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد.
يأخذنا المعرض في رحلة مثيرة إلى الشرق عبر مجموعة فريدة من الآثار، لكنّ طريقة عرضها تعيدنا إلى إشكاليات الاستشراق، والدور الذي يؤدّيه ماضي الشرق في المخيال الغربي. يخرج الزائر ـــــ العربي تحديداً ـــــ من المعرض بمشاعر مختلطة. الخطاب الذي يؤطر المعرض والطريقة التي غطته بها بعض الصحف الألمانية لا يتعرضان للإشكاليات السياسية والأخلاقية التي تكتنف استيلاء مؤسسات أو أفراد على كنوز ثقافية، لكن ما يدعو إلى التفاؤل أن الآثار التي يُعثَر عليها منذ تجديد التعاون بين فرق التنقيب الألمانية والسورية عام 2006، يُفترض أن تبقى في المتاحف السورية.



«الآلهة الناجية من قصر تل حلف»: حتى 14 آب (أغسطس) المقبل ـــــ متحف بيرغامون، برلين (ألمانيا). www.gerettete-goetter.de