في لحظات، تحوّلت كلمة ثورة، التي كانت مقترنة بتاريخ الفاتح من أيلول (سبتمبر) 1969، لتنقذ نفسها من الزيف والسجن والقالب المؤدلج الذي وضعها فيه القذافي على مدى 41 سنة، أي منذ الانقلاب العسكري الذي قام به ملازم الاستخبارات معمر القذافي مع مجموعة من العسكريين سمّاهم «الضباط الوحدويين الأحرار». عادت هذه الكلمة لتُزرع في مكانها اللائق منذ اليوم الذي تفجرت فيه ثورة الشباب الليبية. في لحظة نيّرة، تغيّر وعي الناس، وصارت كلمة ثورة تعني «17 فبراير» 2011. صار شهر الفاتح شهر الانقلاب الديكتاتوري الذي وضع ليبيا في سجن مظلم أكثر من أربعة عقود، وسبّب لها الكثير من المشاكل على الصعيد المحلي والدولي، وورّطها في حروب وعمليات إرهابية، وحوادث خطف وذبح، وتغييب قسري واغتيالات وإسقاط طائرات مدنية آمنة، وتدبير انقلابات في دول أفريقية، وغيرها من دول العالم الثالث، وفي كثير من العمليات الأخرى القذرة وغير القانونية التي سيكشف عنها التاريخ كعادته فور غرق النظام نهائياً.
وككل ديكتاتور، كشف الشعب تفاهته فصار لا يصدّق أنه فقد جبروته، وأنّ السلطة تسرّبت من يده وقبضته ما كانت تقبض إلا على سراب هش، وكومة من وهم ورمال، فما كان من هذا الديكتاتور إلا أن أطلق نيرانه الحارقة على الشعب الأعزل المطالب بحقه في الحرية كبقية الشعوب الحرّة. أطلق باروده النتن على الشعب، لا يفرق بين شاب، أو طفل، أو عجوز، أو حتى شاة ضأن، أو ماعز، أو جمل أو قط أليف.
لقد قصف المدن، والقرى، والمصانع، والمساجد، والمخابز، ومحطات الوقود، وأبراج الكهرباء، والموانئ، والمطارات، والمزارع، والحدائق وحقول النفط. حجب خدمة الهواتف والإنترنت ومحطات التلفزيون. قطع الماء والكهرباء عن الناس في المدن الثائرة. قتل الجرحى على أسرّة المستشفيات. ونبش القبور لخطف جثث الشعب الثائر ليستخدمها في أغراضه الدنيئة. مارس بكل صفاقة سياسة الأرض المحروقة ليجعل الناس يتركون بيوتهم، ويفرّون بما بقي لهم من حياة. وصل بعض أولئك الفارين من القصف إلى مدن حدودية مع تونس ومصر والجزائر. ولقد عايشت أثناء رحلة قصيرة إلى مصر عبر الحدود البرية ما يعانيه هؤلاء النازحون من مدن أجدابيا، والبريقة، ورأس لانوف، ومصراتة، والواحات، وأطراف بنغازي وغيرها من المدن التي شهدت القصف الوحشي المجنون من كتائب القذافي.
مشاهد كثيرة عايشتها مع هؤلاء النازحين وحكايات بشعة سمعتها منهم يندى لها الجبين. وفي الوقت نفسه، سمعت منهم ثناءً وشكراً ودعاء من القلب لأهالي مطروح المصريين الذين احتضنوا هذه الحالات الإنسانية، وأشعروهم بأنهم في بيوتهم وبين أسرهم، فمنحوهم السكن المجاني والغذاء والرعاية، ووفروا لهم كل الخدمات التي لن توفرها بصورة حميمية أي منظمة إنسانية معروفة كالمنظمات التي نجدها بخيامها على الحدود.
السفر من بنغازي إلى مصر الآن صار رحلة ممتعة. يمكنك أن تقوم بالرحلة في أمان. سيارات الأجرة تجدها في المحطة القريبة من الفندق البلدي. وكالات كثيرة تستقبلك بود وتوفر لك السيارة المناسبة التي تقلك إلى طبرق أو مساعد أو مصر بكل مدنها. وبعد «17 ثورة فبراير»، عادت الرحمة والمودة إلى مدينتي. يمكنك أن تجد سيارة تنقلك مجاناً إن كنت محتاجاً ولا تملك مالاً. ليست الطريق إلى مصر محفوفةً بالمخاطر كأيام القذافي. الآن، ينعشك منظر علم الاستقلال الجميل بنجمته المتألقة.
البوابات كلها محترمة. لا رشى ولا مضايقات. يحترمون العائلات كأن الناس جزء من أسرهم. الطريق سرعان ما تمضي. وكلما يقف السائق عند استراحة، ينزل الركاب ويشاهدون نشرة الأخبار ليطمئنوا على الثوار في كل مدن ليبيا الشامخة. الإجراءات في الحدود الليبية المصرية سريعة. المصريون رائعون. يقدمون لليبيين كل التسهيلات. ليس ضرورياً أن يكون معك جواز سفر، فحتى البطاقة الشخصية مقبولة.
مطروح كلها مع الثورة الليبية، رغم التحفظ الحالي بخصوص الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي رسمياً من قبل الدولة. علم الاستقلال الليبي تجده مرفرفاً أمام الكثير من الدكاكين أو ملصوقاً على زجاج السيارات المصرية وأبوابها. تراه يرفرف من الشرفات. وهناك ملحقاته التذكارية من قبعات وميداليات وأعلام صغيرة وأوسمة. الكل يشتري منه ويقتنيه بحبّ، ولا يفاصل البائع في الثمن، فالسلعة هي الحرية. هي علم الاستقلال الليبي. هي علم الثورة المصري في «25 يناير». تجد أيضاً الكثير من الأعلام والتذكارات المزدوجة: وجه لعلم الاستقلال الليبي، ووجه لعلم الثورة المصرية.
مطروح كلّها مع ثوار ليبيا. لا ترى في الشوارع إلا أعلام الاستقلال الليبية: على واجهات الدكاكين، وفي المطاعم والمقاهي، وعلى شرفات شقق العمارات، وفي سوق الخضروات. ودائماً ما تجد سيارات مصرية عليها صورة لعلم الاستقلال الليبي، وصورة لعمر المختار. وفي أغلب المحال والشوارع، تجد ملصقاً جميلاً كتب عليه بخط أنيق: «اللهم سلّم ليبيا وأهلها». تجد أيضاً في بعض المطاعم والدكاكين والأسواق ملصقات أخرى تدعو إلى «التبرع من أجل إغاثة إخواننا الليبيين».
الكل في مطروح يتابعون التلفزيون، وخصوصاً نشرات الأخبار. وعندما تبدأ المتابعة الخاصة بليبيا، يصمت الجميع في المقهى، ويستمعون إلى آخر الأخبار. ويمكنك أن تلاحظ علامات الارتياح والفرح والحبور إن كانت الأخبار تصب في مصلحة الثوار. وإن كان الثوار قد تراجعوا بسبب القصف، فتلحظ بوضوح علامات الحزن وترتفع الأيادي فوراً بالأدعية لنصرة ثورة الشباب. التلفزيون لا تتغير قنواته عن «الجزيرة» والقنوات المصرية الإخبارية، إلا إذا كانت هناك مباراة كرة قدم مهمة في الدوري المصري أو العالمي. لكن بعد انتهاء المباراة، يعود التلفزيون إلى «الجزيرة» لمتابعة آخر تطورات الثورة الليبية وبقية الثورات المجيدة في بلاد العرب.
تشعر أنّ كل أهل مطروح يقاتلون معنا ببنادق القلب. كل أهل مصر، كان موقفهم مشرفاً من ثورة الشباب في 17 فبراير. منذ تفجرها، ظهر انحيازهم معتبرين إياها تكملة لـ«ثورة 25 يناير». لم يقفلوا الحدود، بل أرسلوا إلى ليبيا الأطباء والأدوية والمواد الغذائية والخضروات والفواكه، وكوّنوا لجان إغاثة للشعب الليبي الثائر في معظم مدن مصر.
وعندما نقول إنّ مصر وليبيا شعب واحد، لا نخطئ. ونتوقع بعد هزيمة القذافي وقيام دولة الثورة الجديدة أن تكون هناك وحدة حقيقية بين الشعبين الليبي والمصري. وحدة قلب قبل أن تكون وحدة سياسة. وحدة، لا تجارة، ولا أغراض أيديولوجيّة فيها. وحدة ثوار. وحدة بين ميدان التحرير في كل مدن مصر، وميدان التحرير في كل مدن ليبيا. شكراً مطروح. شكراً مصر العظيمة.
* روائي ليبي




سخرية بليغة

في أحد أيام الجمعة، دعيت العائلات الليبية النازحة إلى حضور حفل ترحيب نظّمته لجان الإغاثة في مسجد «الفتح» في مطروح. تخلّلت الأمسية كلمات مناصرة لثورة الشباب في ليبيا. بعدها، التقى الحضور بالشيخ الشاعر البدوي عبد الكريم بوجديدة الذي ألقى قصائد شعبية باللهجة البدوية، وهي لهجة ليبية مفهومة تتحدث عن كفاح الشعب الليبي. وقد اكتست قصائده الجميلة نفحة من السخرية البليغة التي جعلت الجمهور يبتسم بين الحين والآخر.