كان علينا أن نقطع 25 كيلومتراً خارج دمشق للبحث عن بيته بين بيوت الديماس الراقية المعروفة بـ «قرى الأسد». هناك، نعثر على فيلّا هيثم المالح. يعتريك عجز ما أمام هذا الرجل الثمانيني، خصوصاً أنّك أمام شاهد حي على العصر، حلم بالحريّة طوال حياته. توقيت الزيارة يتخذ بعداً خاصاً في هذه الأيام المصبوغة بنداءات الحريّة. يزيد من خشوع اللحظة أنّه خرج لتوّه من السجن الذي يقبع فيه منذ خريف 2009، بعد العفو الرئاسي الأخير. يقطع الحقوقي السوري حيرتنا، ويبادرنا بقول لعبد الرحمن الكواكبي: «السلطة المطلقة، مفسدة مطلقة». كأنّ هذه العبارة تختصر كلّ أسباب نضاله. ولد المالح في حارة دمشقية عتيقة. والده كان ساعاتياً، وأمّه خياطة. هيّأ له الأب مناخاً ملائماً ليعيش حرية مطلقة. لكنّ الحزم كان صفة ملازمة لأمه التي ظلّ يحسب لها ألف حساب حتى فارقت الحياة. رفضت هذه الأم أن يترك ابنها المدرسة بعد الشهادة الابتدائية، كما كان يفعل أبناء العائلات الدمشقية حينها.
هكذا، أكمل دراسته، وحاز الشهادة الثانوية ثم تخرّج من «كلية الحقوق» في دمشق، وعمل محامياً. عُيّن بعدها قاضياً في محاكم دمشق، وواظب على حراكه السياسي والاجتماعي من دون الانتماء إلى أي حزب. عام 1965، اقتحم الجيش المسجد الأموي ليفكّ اعتصاماً، واعتقل العشرات. ما كان من المالح يومها إلا أن دعا إلى اجتماع عاجل لقضاة دمشق، فأصدروا بياناً طالبوا برفع حالة الطوارئ والإفراج عن المعتقلين السياسيين. ثم أعلن القضاة، مع مجموعة كبيرة من المحامين، الإضراب العام، حتى تحقيق مطالبهم، وهو ما دفع الرئيس السوري آنذاك أمين الحافظ للخروج إلى شرفة قصره، ومخاطبة الناس قائلاً: «الأمهات يلدن كثيراً، وسنقطع أيديهم وأرجلهم، ونرميها للكلاب». إثر ذلك، غادر المالح إلى ليبيا. وبعد عام على تلك الأحداث، أصدرت السلطات السورية قراراً برفع الحصانة عن القضاة، وطردت 24 قاضياً من كبار قضاة دمشق، كان آخرهم المالح. «كان طردي من القضاء أمراً غير مشروع، لأنني لم أكن في عملي، بل خارج البلاد». هكذا تسجّل مجدّداً في نقابة المحامين فور عودته من ليبيا، وبدأ من جديد بمزاولة المهنة.
احتجّ المالح على تأسيس «طلائع البعث»، لأنّ انضواء الأطفال في صفوف أي حزب أمر غير جائز برأيه. ثمّ تقدم بطلب عام 1978 إلى اجتماع هيئة محامي دمشق، وطالب برفع حالة الطوارئ، وإلغاء الأحكام العرفية. وأصدر الاجتماع الذي قاده رشاد برمدة أحد أبرز السياسيين السوريين، قراراً يعترف بموجبه بتلك المطالب. وفي 1980، اعتقل المالح مع ناشطين ومحامين على رأسهم صباح الركابي، ورشاد برمدة الذي كان في السبعين حينذاك. قضى المالح ستّ سنوات في الاعتقال، من دون أن يخضع لأي محاكمة، وكان يرى السجناء يخضعون لأشكال التعذيب أمام عينيه. خلال سنوات السجن تلك، أضرب عن الطعام سبعين يوماً متواصلةً، ممّا أجبر السجانين على تلبية بعض مطالبه، بعدما صار على شفير الموت.
يقطع رنين الهاتف سرد تفاصيل تلك السنوات المظلمة. قنوات إعلامية كثيرة تريد أن تسمع رأيه حول الوضع في سوريا الآن. يردّ بأنّ «الاحتمالات كلّها مفتوحة ما لم تبدأ السلطة بإجراءات إصلاحية حقيقيّة، أولها رفع حالة الطوارئ». يخبرنا وهو يقفل الهاتف، أنّه يستقبل عشرات الإعلاميين يوميّاً، وأنّه على هذه الوتيرة منذ أكثر من أسبوعين.
يصرّ المالح على تقديم العصير بنفسه، قبل أن يكمل لنا الحكاية. بعد خروجه من السجن، حاول إعادة بناء مكتبه من دون أن يتوقف يوماً عن كتابة المقالات. لكنّه كان ولا يزال ممنوعاً من طباعة أي حرف في سوريا. مع مطلع القرن الجديد، أعدّ بحثاً عن التعذيب في السجون، فنال عنه جائزة اللجنة الاستشارية الوطنية لحقوق الإنسان في فرنسا. لكنّ الحكومة لم تسمح له بالسفر ليتسلم الجائزة. كذلك نال ميدالية الحرية من هولندا، وتدخّل العديد من المنظمات لدى السلطات لتسهيل سفره، لكنّ الحكومة بقيت عند قرارها: ممنوع السفر!
خلال السنوات الرصاصيّة، لم يتوقّف الأستاذ هيثم عن التحذير من خطر القمع، وازدياد عدد سجناء الرأي. ذات مرّة دعاه أحد ضباط الاستخبارات الكبار إلى الغداء، لـ«الحوار معه»، فأخبره المالح بأنّ الأمر يزداد سوءاً في سوريا نتيجة تضييق الحريات، واستعار عبارة الحجاج قائلاً: «وإني لأرى الدم يترقرق بين العمائم واللحى».
خلال العقد الماضي أسهم مع آخرين في تأسيس «الجمعية السورية لحقوق الإنسان» في سوريا، وترأس مجلس إدارتها بين 2001 و2006. بعد لقاء مع تلفزيون «بردى» المعارض، استدعي المالح إلى أحد فروع الأمن فرفض الذهاب. فما كان من جال الأمن إلا أن اختطفوه من الشارع وحوكم عام 2009 بتهمة «وهن نفسية الأمة، ونشر معلومات كاذبة». وكانت النتيجة أن أعدّ المالح أربع مذكرات دفاع نموذجية، أذهل فيها المحكمة، وطالب فيها بحبس أعضاء هيئة المحكمة لأنّهم ينتمون إلى الحزب الحاكم.. فيما القانون يمنع انتساب هيئات المحاكم العسكرية للأحزاب السياسية. لكنّ النتيجة كانت الحكم عليه بالحبس ثلاث سنوات... ليفرج عنه أخيراً بعد إصدار العفو الرئاسي في آذار (مارس) الماضي. اليوم، يرى المالح أنّ الربيع العربي الذي نشهده هو الثورة الحقيقة، وأن محمد البوعزيزي كان مشعلها. لذا فهو يطلق عليها اسم «ثورة الفقير» من المحيط إلى الخليج، ويدعو إلى إصدار طابع باسم الشاب التونسي. في نهاية الحديث يضيّفنا شيخ الحقوقيين السوريين قطعة حلوى، فنأكلها. لكنّه يصرّ علينا أن نحمل معنا قطعة أخرى. حسناً. نشكره على ضيافته الطيبة، ونستودعه الله. على بعد خطوات من مدخل الفيلا، تنقضّ علينا الكلاب البوليسيّة، ويحاصرنا رجال في الظلام. تدقيق في الهويّة، تفتيش، استنطاق عدائي وتحقيق يليق بقاطعي الطرق وسائر «المندسّين». الأمن الذي يرابط في مكان قريب من منزل هيثم المالح، أبلغنا ــ على طريقته ــ عدم الرضى عن هذه الزيارة. في الشارع المقفر، نحاول أن نستعيد أنفاسنا، ونتمالك أعصابنا... هل كان هيثم المالح يعرف أننا سنحتاج إلى حبّة الحلوى الثانية؟



5 تواريخ


1931
الولادة في حي ساروجة
في دمشق

1956
تخرّج من كلية الحقوق في «جامعة دمشق»، وبدأ مزاولة المحاماة بعد ذلك بعام

1980
اعتقل للمرّة الأولى وبقي في السجن ستّ سنوات

2005
جائزة «اللجنة الاستشارية الوطنية لحقوق الإنسان»
في فرنسا، وبعدها بعام نال ميدالية الحرية من هولندا

2011
خرج من السجن بعد العفو الأخير، وكان قد اعتقل
في خريف 2009. يستعدّ لإصدار مجموعة كتب تروي تجربته السياسيّة والإنسانيّة