الدورة الرابعة من «مهرجان الخليج السينمائي» في دبي التي افتتحت الخميس الماضي وتستمر حتى 20 الجاري، معبر أكيد نحو ظواهر لن تقع عليها في أي مهرجان آخر، كأن تكون السعودية حاضرة بـ12 فيلماً رغم غياب دور العرض في المملكة. ومع كل دورة، ستتعرف إلى أسماء سعودية جديدة تصنع أفلاماً رغم حصار الحلال والحرام المضروب حول جيل يجد في الفن السابع أداته التعبيرية الأولى. وفي السياق نفسه، فإن سيكون العراق الحاضر الأكبر عبر أربعة أفلام روائية طويلة من أصل ستة في المسابقة الرسمية وصولاً إلى فيلم الافتتاح «طفل العراق».الافتتاح هذا العام قال الكثير. على الشاشة يطفو وجه امرأة خليجية تبقى الكاميرا «كلوز آب» عليه إلى أن تطفر الدموع من عينيها، ثم تتحول كلمة «ألم» إلى «أمل». نحن أمام فيلم للعراقي علاء محسن الذي لم يتجاوز العشرين، يقودنا إلى جيل ليست الكاميرا إلا عضواً من أعضائه. عمله قائم على توثيق سيرة ذاتية مصورة من دون «روتوش»، بل بفجاجة الديجتال وواقعيته الفظة.
يضعنا علاء محسن وجهاً لوجه أمام حياته وأقربائه، إنه دنماركي الآن، وقد اضطر هو وأسرته لمغادرة العراق ولم يتجاوز الخامسة هرباً من نظام صدام. والعراق ليس إلا ذكريات طفولية يستدعيها، من إصرار أمه على أن يكون على اتصال مع بلده. الأمر الذي يدفعه للمضي برحلة إلى بلاد الرافدين، وتحديداً مدينة «الديوانية»، وهو يسرد ذلك بالدنماركية، اللغة التي يريدها بقوة الآن، ويستبدل بها العربية حين يكون في العراق.
تفتح كاميرا محسن الأبواب على مصراعيها أمام الخراب بأعتى تجلياته في الديوانية. تصوّر انعدام أدنى شروط الحياة، ومعها حالة الخوف والحزن الذي يجد في النجف ذروته مع استعادة من قضوا من الأقارب على أيدي الميليشيات الإرهابية، وصولاً إلى ذروة درامية مفاجئة تتمثل في موت والدة المخرج، الحدث المفجع الذي لا يكون متسقاً إلا مع أمنية الأم بأن تدفن في مقبرة النجف. ويختم محسن الفيلم بطريقة استفزازيّة صادمة: إذ يكفر تماماً بالعراق، فهو لا يريد أن يكون إلا دنماركياً.
مقابل ذلك، ستخرج علينا أفلام عراقية من الضفة الأخرى لخيارات صاحب «طفل العراق»، هناك من ولد وعاش في بلاد الرافدين ولا يريد أن يموت إلا على ترابها، كما سنعرف مع فيلم وثائقي آخر بعنوان «قبل رحيل الذكريات إلى الأبد» للمخرجين مناف شاكر وفلاح حسن. يقدم العمل مادة وثائقية مهمّة تتحرك في مساحة زمنية ممتدّة من السبعينيات إلى الزمن الحالي. هنا، يكون التوثيق سينمائياً للفن السابع العراقي، وتحديداً أفلام طلبة معهد الفنون الجميلة في بغداد.
من خلال هذه الأفلام، نتعرف إلى كل ما تغير في العراق، وإلى السينمائيين الذين صنعوها. ونشير إلى كون الجزء الأكبر من الفيلم مخصصاً لهؤلاء السينمائيين وأفلامهم، أما الشهادات التي يتوالون عليها فستكون متتابعة ومتوالية أشبه بـ«الريبورتاج»... إلى أن نصل إلى قلب التجربة، أي طرح إشكاليّة «السينما العراقية في الديكتاتورية والديموقراطية». ولعل الفيلم يوصل كل مقولته، كما ليقول لنا: حسناً، لقد كانت فترة ديكتاتورية، لكن كنّا نصنع أفلاماً في العراق، وإن كانت في أحيان كثيرة ممهورة بختم «البروباغندا» التي وظفها النظام العراقي السابق في حروبه الكثيرة. لكن في المرحلة «الديموقراطية» الحالية، لم يعد هناك من سينما، لا بل أصبح كل شيء دينياً، والمعارض الفنية أشبه بالتكايا، والعروض المسرحية كربلائية على الدوام.
يصل الفيلم في النهاية إلى كل ما بُني الشريط عليه، وهو اكتشاف المخرجين ما آل إليه معهد الفنون الجميلة... وكيف أن الأفلام التي يتناولها العمل مكدسة ومرمية كما لو أنها في مكب نفايات... وكيف أخذها شاكر وحسن من المعهد للحفاظ عليها وتحويلها إلى نسخ رقمية شاهدنا بعضاً منها في الفيلم.
«قبل رحيل الذكريات إلى الأبد» يحمل نداءً لحماية تراث العراق السينمائي من أيدي الجماعات المتزمّتة التي لا تأبه للفن، وبالتالي لا يمكنها أن تبني مستقبلاً للوطن، فضلاً عن الطبقة السياسيّة الفاسدة والجاهلة التي سلّمها الاحتلال مقادير الحكم. إنقاذ الذاكرة السينمائيّة هو إنقاذ العراق، وزرع بذور الأمل بغد أفضل.