دمشق | جاء الموعد في وقته تماماً، فنحن أحوج ما نكون هذه الأيام إلى طيف فاتح المدرس (1922 ـــ 1999)، كي يعيد إلى دمشق شيئاً من طمأنينتها الغائبة. التشكيلي السوري الرائد حلّ ضيفاً على «غاليري مصطفى علي»، بمبادرة من جمعية «مكان»، ضمن تظاهرة احتفائية بعنوان «أيام فاتح المدرّس».كأنّ «مبصر الزمن الأعمى» نهض من قبره في قرية كفر جنة في الشمال السوري، ليروي لنا سيرته المتجدّدة. لكن هل غاب المدرّس حقاً؟ في شريط «فاتح المدرّس» الذي أنجزه عمر أميرلاي ومحمد ملص وأسامة محمد، نعود إلى ضربات ريشة المعلم الراحل، وتجربته الحياتية المثقلة بالألم والطهارة والتمرّد.

من أصل 11 ساعة سجّلها المخرجون الثلاثة، اختزلت التجربة الثرية في 45 دقيقة. عرض العمل في افتتاح الـ«أيام...»، واستمع الجمهور إلى محمد ملص يتحدّث عن توثيق الغياب: غياب المدرّس أولاً، وغياب شريكه في الشريط عمر أميرلاي.
الباحثة سمر حمارنة صاحبة كتاب «كيف يُرى فاتح المدرس» (1999)، تناولت جوانب شخصية وروحانية وفكرية عايشتها مع الملوّن السوري، أما الأكاديمية والباحثة حنان قصاب حسن فأطلّت على فضائه السردي الخاص، عبر قراءة من مجموعته القصصية «عود النعنع» (1980)، فيما قرأ الشاعر لقمان ديركي مختارات من أشعاره.

تقدّم «أيام فاتح المدرّس» فرصة ثمينة للتعرّف إلى لوحات مجهولة، ستعرض لأول مرة، وهي مقتنيات شخصية، جُمعت خصيصاً لهذا المعرض. وسنكون عند السابعة من مساء اليوم أمام متحف مفتوح على المستقبل، مع قراءات نقدية يقدمها التشكيلي إدوار شهدا والناقد سعد القاسم. منذ بداياته في الأربعينيات، سكب المدرس حزنه الريفي في لوحاته، وظلّ لصيقاً بألوانه المستمدة من بيئته الأولى. احتضنت لوحته حالات من غيبوبة الأسطورة وغمامية الحلم، واتسعت لنوافذ كثيرة مطلة على الذاكرة والهواجس الطفولية التي تسكن مأساوية الفراغ، فإذا بصاحبها أبرز ممثلي «الواقعية التعبيرية» التي لا تخاف التجريد، وأحد أهم التعبيريين العرب. تفاعل المدرس مع الفنون الشرقية القديمة، ومزجت تعبيريته الحديثة التراث المحلي، والمخزون الثقافي العربي الإسلامي، بالأسئلة الكونية، ومشاغل الإنسان المعاصر. ولم تكن دراسته للفن في روما ثم في باريس، عائقاً أمام تأكيد هويته وجذوره الحضارية. فهذا الهاجس كان عنوان مغامرة مستمرة وبحث جمالي معمّق لبناء لغة تشكيلية، تعتمد تجريد الأشكال واختزالها إلى مجرد علامات وخطوط، من دون الغوص في تفاصيلها الواقعية أو التخلي عن الهموم الإنسانية.
وقد لخّص الراحل تجربته بقوله: «ينتابني شعور بفقدان السمع، فأغيب عن ضوضاء الشارع، وأشعر بأن الضوء حولي أخذ يخفت ويتحول لوناً رمادياً، وأنني في نفق طويل. فجأة يتراءى ضوء من بعيد، فتأخذ الخطوط شكلها، حينئذ أسمع صوتاً في داخلي يقول: قف انتهى العمل».
تنطوي تجربة المدرس على حسّ مأساوي يغلّف الوجوه الغائمة التي تحتل مساحة اللوحة، وهي غالباً لفلاحات من الشمال السوري، صورة أمه على نحو خاص. هناك تفتحت عيناه على ألوان الأرض وقسوة الطبيعة التي استمد منها قصصاً يعدّها النقاد من أبرز علامات القصة السورية في الستينيات. وصف المدرس بمهارة عذابات الإنسان والبطش الذي يثقل كاهل الأفراد، فهو عاش طفولة شقية محرومة، متنقلاً مع أمه الكردية في قرى الشمال السوري، وقد سلبه أعمامه حقه في الميراث الكبير، بعدما قتلوا والده خشية انتقال الثروة إلى أخواله. وقد كتب سعيد حورانية، في تقديم مجموعته القصصية «عود النعنع»: «يشبه عالم كافكا، لكنّ كافكا يصل بنا إلى درجة اللاجدوى، بينما تحسّ بأنّ عالم فاتح المدرّس مشحون بموجة عارمة من السخط والحقد، تتجاوز مرحلة التأثير إلى الفعل... وتلعب الصورة بوجه خاص دوراً بارزاً في فنه القصصي. فالفنان التشكيلي لا تخطئه العين في قصصه أيضاً».
فلسفة فاتح المدرس تتمثل أيضاً في أشعاره التي جمعها في كتابين: «القمر الشرقي على شاطئ الغرب» الذي كتبه بالاشتراك مع شريف الخزاندار (1962)، و«الزمن الشيء» بالاشتراك مع حسين راجي (1984). في كلا العملين يعبّر الفنان عن مزاج اللحظة، ويقدم شطحات فلسفيّة وخربشات لونية، تكشف عن قلقه تجاه أسئلة الحياة وتناقضاتها: «الليلة كتبت اسمك على أرض غرفتي ـــــ يكتب ــــــ ومضيت أتسلّق الجدار ماشياً: كما لو أنَّ هذا الكوكب بلا أحذية».
استعادة لوحات المدرس، الآن وهنا، تضيء مساراً فردياً للقيم الجمالية التي أرساها في المحترف السوري، عبر بحثه عن لغة تشكيلية تمزج بين الحسية والصوفية من جهة، والهوية المحلية والبعد الكوني للمفردة التشكيلية من جهة أخرى. لكن ماذا بخصوص مذكرات فاتح المدرس؟ تجيب رفيقة دربه شكران الإمام: «تحتاج المذكرات التي كتبها فاتح خلال فترات متباعدة، تمتد من أواخر الأربعينيات إلى التسعينيات، إلى تبويب وتحرير، كما أنها تنطوي على فضائحية ومواقف صريحة وجريئة، لا أريد البوح بها الآن، إضافةً إلى قصائد وقصص لم ينشرها». نخرج من مرسمه الذي تحوّل إلى صالة عرض، ونحن نستعيد عبارة بخط يده، كانت معلّقة على أحد الجدران «مرّ هولاكو من هنا، تبسّم ثم ولّى الأدبار».



«أيام فاتح مدرّس» ــــ «غاليري مصطفى علي» (دمشق القديمة). للاستعلام: 00963115421988