مدرسة عينطورة للآباء اللعازاريين في كسروان. دير مار جرجس التابع للرهبانية المارونية في عشاش. مدرسة مار يوسف في زغرتا. ومدرسة الآباء الكرمليين في طرابلس. لتلك المدارس التي ارتادها الصبيّ الزغرتاوي قاسم مشترك: «كانت جميعها تحوي مسرحاً»، يقول عاشق الخشبة يعقوب الشدراوي. في إحدى تلك الصالات، تأكّد ابن زغرتا من أصالة شغفه الذي سيشكّل محور حياته في ما بعد. ذات يوم، وزع الأستاذ على التلامذة أدواراً من مسرحية تتناول حياة يوسف بك كرم. لكنه نسي الصبي يعقوب، وفاته اختيار ممثلين لبعض الشخصيات الأخرى في المسرحيّة. بعد انتهاء الحصّة، وخروج الجميع بقي التلميذ في الغرفة، وانقضّ على الدفتر الذي تركه الأستاذ هنا، وما كان منه إلا أن حفظ كل الحوارات التي لم تحظَ بمؤدّين ... في اليوم التالي، أدّاها أمام الأستاذ المنذهل. مسحة من النوستالجيا تظلّل حديث يعقوب الشدراوي عن الماضي. لا تزال عيناه تلمعان وهو يتحدث عن شغفه كمراهق بماكياج المسرح وأزيائه. بعد التخرج عام 1952، رفض الوالد ملّاك الأراضي، أن يتابع ابنه دروس المسرح، فاختار هذا الأخير أن يسافر. قصد فنزويلا بدافع العمل وتجميع مالٍ يخوّله دراسة المسرح في لندن على نفقته. تلك كانت الخطة، لكنّها فشلت. «عم جوع»، قال لذويه في رسالة أخيرة بعثها لهما قبل أن يعود إلى لبنان.
صار بعد عودته يعمل في إدارة «الجمعية اللبنانية للضرير والأصم» في منطقة بعبدا. أما ليلاً، فينهل من التراث المسرحي العربي والعالمي. تفرّغ في العطل لإخراج عروض في القرى، يمثّل فيها أبناء القرية أنفسهم، منها مسرحيتان لسعيد تقي الدين «نخب العدو» و«لولا المحامي»، و«مارد صور» للخوري ميخائيل معوّض. التجربة الأخيرة كانت مفصلية. المسرحية التي عرضها في عينطورة (المتن)، في مناسبة عيد السيدة العذراء، حازت إعجاب أحد الأساقفة الذي أمّن له منحة لدراسة المسرح في إيطاليا. لكن، لشهرين فقط ... ثم تعاطف معه رجل دين آخر ـــــ أرشمندريت هذه المرة ـــــ التقاه بالمصادفة في ساحة البرج، وتعهّد بتدبير منحة لدراسة المسرح في روسيا.
هكذا سافر يعقوب إلى مدينة قسطنطين سرغييفيتش ستانيسلافسكي. كان ذلك عام 1962. تفرغ في البداية لدراسة الروسية، لكنّ لغته كانت لا تزال متعثرة، حين طلب إليه أستاذ حصة التمثيل في معهد «غيتيس» للفنون المسرحية، ذات صباح، أن يؤدّي مشهداً ارتجاليّاً. اعتذر الشدراوي، لكن الأستاذ أصرّ: «إذا كنت لا تتقن الروسيّة، فحدثنا بلغتك ... عن والدك». اقشعرّ بدن الشاب. فبينه وبين ذلك الرجل قصص مؤلمة، وكلام كثير غير مباح. ألم يقف في البداية حائلاً دون تحقيق أحلامه في اعتناق المسرح، قبل أن يقضي بعد سنوات برصاص طائش في طرابلس خلال أحداث 1958، لتعيش الأسرة مأساة حقيقية؟
تلك القصة كانت قد ألهمت الشدراوي مسرحية «الثأر في لبنان» التي قدّمها عام 1959 على مسرح «الشباب الكاثوليكي في طرابلس. وكان على الشاب الذي حاكى هاملت عبر كتابة مسرحية عن مقتل والده، أن يعاود الكرّة في موسكو هذه المرّة، إنما من خلال أسلوب المناجاة والتداعيات. إنّها لعنة شكسبير الذي «بدونه شو بيسوى الواحد؟» يقول الشدراوي. تلك اللعنة التي سكنته مبكراً، هي التي جعلت ذلك الشاب الغريب، في يوم بارد بعيد في موسكو، يأسر زملاءه بمشهد مسرحي مرتجل لم يفهموا منه حرفاً واحداً، لكن معظمهم بكى تأثراً. سنوات خمس مرّت، أدمن خلالها عروض المسرح والباليه في العاصمة الحمراء. كانت الأجراس أكثر ما أذهله: أجراس عملاقة، في الكرملين، في البطريركية الأرثوذكسية في زاغورسك (سيرغييف حالياً)، وفي مسرح ستانيسلافسكي، «ثاني أهم شخصية في القرن الماضي، بعد بريخت». اختار لمشروع التخرج مسرحية «حكاية فاسكو» للأديب اللبناني جورج شحادة.
حين عاد إلى لبنان عام 1968، كان البلد يغلي بالتجارب المسرحية الطليعية، من «مدرسة بيروت للمسرح الحديث» لمنير أبو دبس، إلى «حلقة المسرح اللبناني» مع أنطوان ولطيفة ملتقى ... وصولاً إلى روجيه عساف ونضال الأشقر في «محترف بيروت للمسرح». قدم باكورته «أعرب ما يلي» عام 1970 على خشبة مسرح مهرجانات بعلبك، قامت الدنيا ولم تقعد. لكن المسرحية الاختبارية التي جمعت قصائد أدونيس وأنسي الحاج ومحمود درويش مع مقتطفات من نصوص جورج شحادة وسعد الله ونوس، وشهدت إقبالاً غير مسبوق، «عملتلي فضيحة»، كما يقول حتى اليوم بتأثر. فقد كتب فارس يواكيم يومذاك مقالة بعنوان: «اليوم وُلدَ المسرح اللبناني».
شعر يعقوب الشدراوي بالإحراج. «إنّه حكم الإعدام»، قال لزميله نقولا دانيال حين دخل عليه وهو يلوّح بالجريدة. لكنه لم يكن كذلك تماماً. تتالت الأعمال بمعدل عمل في كل موسم، وتنوعّت، من غوغول في «مذكرات مجنون» (1971)، إلى «فرافير» يوسف إدريس التي حملت في صيغتها اللبنانيّة عنوان «الطرطور» (1983). أعاد بناء حبكتها في بيروت تحت الحصار الإسرائيلي. نذكر أيضاً عمله انطلاقاً من نصّ محلّي يحمل توقيع أسامة العارف، بعنوان «يا اسكندرية بحرك عجايب» (1992). وحظي محمد الماغوط بنصيب وافر من اهتمام الشدراوي في مطلع السبعينيات، من «سمكة السّلور» إلى «المهرج» التي لاقت شهرة واسعة بين أوساط النقاد والجمهور، وصولاً إلى «المارسيلليز العربي» (1975).
إذا استعدنا أيضاً شغله على جبران خليل جبران (جبران والقاعدة) وميخائيل نعيمة (سبعون) ومارون عبّود (الأمير الأحمر) والطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، نلاحظ أن «الأستاذ يعقوب» ـــــ كما يحلو لممثلي الأجيال المتعاقبة أن يسمّوه ـــــ هو المخرج اللبناني الذي حمل الأدب إلى الخشبة، واشتغل على مسرحته في قوالب تجمع بين التجريبيّة والأكاديميّة الصارمة.
كان دوماً في حالة بحث عن النص المحلّي الجيّد: «في العالم العربي لدينا مشكلة نص»، يقول المخرج الانتقائي الذي لم يعتمد نصاً كما هو، إلا في حالة الماغوط ... ليس مسرحه واقعياً ولا اجتماعياً ولا عبثياً ولا فكرياً ولا حتى رومانسياً. بل كل ذلك وغير ذلك في آن. لم يصطفّ في خانة محددة من المختبر المسرحي الكبير الذي كانته بيروت. هو بريختي، لا يكاد يخلو عمل واحد له من نزعة التغريب، وهو أيضاً عاشق لستانيسلافسكي ومفهومه المرتكز على غوص الممثل في ذاته وفي الشخصية التي يؤديها. وهو متأرجح بين المسرح النخبوي والمسرح الشعبي. «ألم يكن المخرج والممثل النمسوي الأميركي ماكس رينهارت يعرض أعماله في صالتين؟ الصغيرة للاختبار النخبوي، والكبيرة للجمهور العريض؟ يغمز الشدراوي، لافتاً إلى أن «كل عمل يولّد أسلوبه».
نتحدّث عن الشدراوي المخرج، وننسى أنّه من ألمع ممثّلي المسرح، رغم تكريس جهده الأوّل للإخراج. ربّما يمكن أن نحكم عليه عبر إطلالاته على الشاشة الصغيرة في العصر الذهبي لـ«تلفزيون لبنان» من خلال مسلسلات كـ«البؤساء» و«تمارا» مطلع السبعينيات. هناك أيضاً كلام كثير يقال عن يعقوب الأستاذ الذي تخرّجت على يديه باقة لافتة من الممثلين والمسرحيين اللبنانيين، في «معهد الفنون الجميلة» في بيروت، حتّى توقّفه عن التعليم عام 1998. يتفادى يعقوب الشدراوي، الملتزم الهادئ، التعليب السياسي. يؤكّد صاحب «نزهة ريفية» التي تناولت تاريخ الحزب الشيوعي اللبناني خلال ستين عاماً: «لم أكن يوماً في الحزب الشيوعي، كنت دائماً إلى جانبه».



5 تواريخ

1934
الولادة في زغرتا (شمال لبنان)

1962
سافر إلى الاتحاد السوفياتي يومذاك لدراسة المسرح، وتخرّج بعد ست سنوات من معهد الفن المسرحي في موسكو (غيتيس).

1970
باكورته «أعرب ما يلي»، تلتها بعد أربع سنوات رائعته «المهرّج» عن نص محمد الماغوط

1992
عاد إلى الخشبة بعد انقطاع تسع سنوات بمسرحيّة «يا اسكندريّة بحرك عجايب» عن نصّ أسامة العارف

2011
ضمن برنامج «مهرجان 50 يوماً 50 سنة» الذي يحتفل بروّاد المسرح اللبناني، يخصص له «دوار الشمس» يوماً احتفالياً طويلاً في 9 نيسان (أبريل) الجاري