في البحث عن المفقودين، تستيقظ اللحظة التي فقدوا فيها، وتتبّع ما خلّفوه وراءهم، ومن هنّ بانتظارهم، أي أمهات مستعدّات للموت من أجل معلومة عن حبيب فقدنه، لكنّ كلّ ما باستطاعتهنّ فعله هو الانتظار... كل هذا، يوقظه فيلم «ملاكي» لخليل زعرور الذي وصل أخيراً إلى الصالات اللبنانية، بعدما عرض على برنامج «مهرجان دبي السينمائي». في هذا الوثائقي، يأتي الملاك على هيئة ابن، والعكس صحيح. المسعى هو التوثيق لكائنات تحوّل الانتظار إلى مهنتها الوحيدة. نحن أمام نساء اختزلت حياتهن بلحظة الخطف أو الفقد، متبوعةً بانتظار طويل لا ينتهي. نقع في فيلم «ملاكي» على المعادل السينمائي لذلك، عبر بناء مواقع تصوير خاصة بكل قصة من القصص الكثيرة التي حملها الفيلم. ستجد الكاميرا في خيمة اعتصام الأمهات أمام مبنى «الإسكوا» وسط بيروت، نقطة انطلاق الفيلم ونهايته. وبين البداية والنهاية، يأتي العمل مُحتشداً بشتى الأدوات السينمائية، يستثمرها المخرج في فعل استعادي على الدوام. يصوّر طريقة الأمهات أو الزوجات في مواصلة العيش، وإيقاظ الأمل، والصراع مع اليأس، وصولاً إلى الموت، وهنّ على أمل بلقاء من مضى ولم يعد... موت لا تريده الأم أن يتحقّق قبل أن تقع على ابنها ولو للحظة واحدة قبل أن ينتهي عمرها.أمام غياب مفقودي الحرب اللبنانية، سيجد خليل زعرور معبراً سينمائياً وثائقياً نحو من يمكن تسميتهنّ كائنات الانتظار. ستكون التفاصيل الصغيرة عامل الحسم الأكبر في إضاءة فداحة الفقد والاشتياق: لوبياء بالزيت تريد الأم أن تصنعها لابنها. أحلام، وصور فوتوغرافية، وتذكارات، ورسالة صوتية متروكة على هاتف منذ عشرات السنين. لعلّ إيقاف الزمن في لحظات العبور نحو من مضوا ولم يعودوا، سيكون موجوداً بقوّة عبر تلك التفاصيل. كذلك تحويل ما تسرده الأمهات عن أبنائهن إلى مفردات بصرية سيكون وثائقياً وواقعياً جداً. بمعنى أنّ سردهن ليس إلا تنقلاً بين صورة وأخرى، بين مشهد وآخر. الكلامي ليس إلا سرداً لصور مستعادة وشهادات للمحفور في الذاكرة، ومعها أدوات رمزية تبتكرها الأمهات لمواصلة هذا الانتظار المديد.
نجد الأم التي ذهبت إلى المقابر الجماعية للبحث عن ابنيها المفقودين، تحفر الرمل على شاطئ البحر. نسمع روايتها وهي جالسة بين أسلاك شائكة، فيما يستعين المخرج ببدلة عرس، لكون أحدهما كان على مشارف الزواج. أمّا أم ستافرو، فتقبّل الوسائد في غرفة ابنها، وتنبش المكان بحثاً عن رائحته. شحن خليل زعرور عمليّة التوثيق بدراما الزمن المتوقف والمستعاد. التنويع في السرد حاضر بقوة، لنجد أنفسنا في النهاية أمام وثيقة تتخذ جماليتها من قسوة ما يوثّق له. قسوة تبدو متوارية خلف وطأة حنان الأمهات وحزنهن الخاص أبداً.

«ملاكي»: «بلانيت أبراج» (01/292192)، «بلانيت طرابل» (06/442471)، «سانت إيلي» (04/406706)