القاهرة | مصحوباً بمقدمة موسيقية خاشعة، تعيد قناة «الحياة» بثّ مقطع قديم للشيخ متولي الشعراوي عن «الثائر الحق». الشيخ الذي رحل قبل عقد، يظهر مجدداً على الشاشة محاطاً بمريديه في صورة غائمة، ومتحدثاً عن (آفة) الثائر: «آفة الثائر شيء واحد، أن الثائر يظل ثائراً»، يقول. ثمّ يشرح بلهجته المبسّطة المحبّبة «عايز كل يوم يعمل دوشة». يعود فيعتدل في مقعده رافعاً إصبعه ليلقي بالخلاصة «لكن الثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد، ثم يهدأ ليبني الأمجاد».إذاً «الهدوء» هو مغزى الرسالة التي تحاول «الحياة» بثّها عبر إعادة متكررة لمقطع الشيخ الراحل، صاحب الشعبية الطاغية. إنها رسالة «كفاية كده» التي حاول النظام القديم بثها منذ اليوم الأول لـ«ثورة 25 يناير». بدأت الرسالة آنذاك مع «كفاية كده رسالتكم وصلت». ثم «كفاية الرئيس استجاب وأقال الحكومة، عيّن نائباً، وأقال هيئة الحزب الوطني، وأعلن عدم ترشحه في الانتخابات المقبلة». ثم انتقلت الرسالة نفسها إلى مستوى جديد بعد خلع حسني مبارك، فأصبحت «كفاية واتركوا أحمد شفيق (رئيس الوزراء المقال) يعمل»، وصولاً إلى «كفاية اقبلوا بتعديل الدستور بدلاً من تغييره».
«الحياة» ليست مجرّد محطة تنتمي إلى العهد القديم، فصاحبها رئيس «حزب الوفد» هو من تورط في الصفقة الشهيرة لتدمير جريدة «الدستور». وبعد خلع مبارك، عمدت القناة إلى الاحتفاء بشهداء... الشرطة، فأعادت بث صور قتلى وزارة الداخلية على خلفية علم مصر، مصحوبة بأغنية «فدائي» لعبد الحليم حافظ التي قدّمها بعد نكسة 1967.
لكن الاستعانة بمقطع ديني لشيخ راحل ليست سوى عيّنة عن استخدام واسع للدين في الثورة المضادة. هناك أيضاً حديث «الرويبضة»: منذ رسخ «فايسبوك» نفسه إحدى أهم آليات ثورة شباب مصر، وما تبعه من قطع للإنترنت لأيام، انتبهت السلطة المخلوعة إلى ضرورة اقتحام الساحة الافتراضية، فأعادت خدمة الإنترنت بعد ضغوط دولية، لكنها عادت ملغومة بالآلاف من عملاء الأجهزة الأمنية. أولئك نشطوا بحماسة دفاعاً عن الرئيس السابق، ونشراً للرعب والفزع والشائعات. ثم أخيراً استغلالاً لأوجه الدين المختلفة في إفساد النقاشات. هنا تذكّر هؤلاء حديثاً نبوياً لم يكن مشهوراً، فأعادوه إلى النقاش: نقل ابن ماجة عن أبي هريرة أنّ النبي محمد قال «إنها ستكون سنين خداعات، يخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن، ويكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، وينطق فيها الرويبضة... قالوا وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة».
بالطبع، أُسقطت دلالة «الرجل التافه» على جمهور الثورة، الإنسان العادي في حد ذاته، و«الرمز» الذي استمدّ رمزيّته من كونه عادياً كوائل غنيم. هذا الإنسان «الرويبضة» ليس مطلوباً منه أن يتحدّث في أمور ذات جلل كالدستور، والبرلمان، والمستقبل السياسي للوطن، فحديثه جهل أو فتنة. والفتنة التي هي «أشد من القتل» كانت سلاحاً ماضياً استُخدم ـــــ ولا يزال ـــــ على أوسع نطاق منذ بداية الثورة. إذاً الإضراب، والاعتصام، والعصيان المدني «فتنة». وأسهم المعادون للثورة في أخذ مفهومهم للفتنة إلى أقصى مداه، وترجموه واقعاً في أحداث طائفية جرى تأجيجها بفعل فاعل. وصوّروا الفتنة المقصودة كنتيجة حتمية لخطأ شرعي بالِغ من وجهة نظر السلفيين. هكذا، استخدموا الآية القرآنية «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا»، برهاناً على تحريم الاختلاف في الرأي. فضلاً عن التظاهر والاحتجاج السلمي، فذلك من شأنه «تفريق المسلمين» وإيقاظ الفتنة بينهم، فالفتنة في الأصل نائمة حسب حديث نبوي ضعيف النسب والسند «الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها».
بعد نجاح الثورة، استمر الخطاب الديني المضاد مستبعِداً بعض أدبياته، ومواصلاً استخدام البعض الآخر. وكان أهم ما استُبعد أو جُمِّل هو الدعاوى الشرعية التي تحرِّم الخروج على الحاكم. وعبر الدعوة في المساجد والحوارات الصحافية ـــــ التي رحبت بها صحف النظام السابق ـــــ استعان السلفيون برأي ابن باز «المشهور من مذهب أهل السنّة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة (الحكام) وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم»، ورأي ابن تيمية «لا يجوز الخروج على الأئمة وإن بلغوا في الظلم أيّ مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح». فضلاً عن حديث نبوي يقول «من نزع يداً من طاعة لم يكن له يوم البعث حجة».
جرى تجميل ما سبق بعد نجاح الثورة، فإذا بعبود الزمر ـــــ بعد الإفراج عنه ـــــ يرى أن الثورة المصرية لم تكن خروجاً على الحاكم، لأن الخروج المقصود لدى السلفية هو الخروج المسلح! أما التظاهرات السلمية، فهي من قبيل «كلمة حق عند سلطان جائر»، وهي من أعظم الجهاد طبقاً لحديث نبوي مشهور. وكان من المفارقات أن يأتي ذلك الرأي من أحد أهم قادة «الخروج المسلح» الذي انتهى بقتل أنور السادات.
في ظل التخوّف من استخدام الدين في الانتخابات المقبلة، وقع المحظور قبل ذلك بكثير، فما إن أعلنت الجماعات الدينية تأييدها لتعديلات الدستور بدل إلغائه، حتى نشر أعضاؤها رأيهم في الوسائل التقليدية التي تناسب جمهورهم من غير مستخدمي الإنترنت: امتلأت اللافتات والمنشورات الورقية بالآيات والأحاديث النبوية والآراء التي تتحدث عن «الواجب الشرعي»، وهذا الأخير ليس دافعاً للذهاب إلى صناديق الاستفتاء فحسب، بل أيضاً التصويت لمصلحة التعديلات، لأن «المناصحة» لا الثورة هي «واجب المسلمين».