برلين | تنطبق مقولة بيكاسو الشهيرة «الفن هو الكذبة التي تصوّر لنا الحقيقة» على معرض محمد سعيد بعلبكي
(1974) الذي يستضيفه «متحف جورج كولبي» في منطقة شارلوتنبورغ الهادئة غرب برلين، بعدما اكتشفه الجمهور اللبناني أواخر العام الماضي في «غاليري مقام» البيروتيّة. «البراق ٢: ممالك الوهم» هو عنوان التجهيز الذي يقدّمه التشكيلي اللبناني في العاصمة الألمانيّة ... في قلب هذا الصرح العريق إذاً، جاء هذا الفنان المشاكس يفضح الخطاب المركّب الذي يعيد كتابة تاريخنا من وجهة نظر القوى المهيمنة، تحت غطاء العلم المتحفي والأنتروبولوجيا ...
يجتاز الزائر حديقة ضخمة، مزروعة بتماثيل كبيرة الحجم لفنانين ألمان، تمتدّ إلى داخل المتحف. تطالعنا ثلاث واجهات زجاجية، تحتوي أوّلها على أدوات مذهّبة، منها مشط وأسوار وخاتم وتمثال أسد، إضافةً إلى آنية كبيرة، وقطع أثرية أخرى ... يوهمنا الشرح المرفق بأنّ قسماً منها يعود إلى القرن الثاني عشر، وعثر عليه في صقلية، وأنّ قسماً آخر عثر عليه في إيران خلال القرن الرابع قبل الميلاد. وعند التمعّن في الواجهة المجاورة، نرى هيكلاً عظميّاً مصغراً لمخلوق يشبه الديناصور بأجنحة وجمجمة إنسان، يحيلنا، بحسب الوصف المرافق، إلى الرواية الإسلامية المعروفة عن البراق والإسراء والمعراج.
لا تصارحنا الشروح المرفقة بأنّ القطع «الأثريّة» المعروضة، أنجزها الفنان نفسه بالشمع والفخار. بالعكس، توحي بأننا في متحف، في معرض يستعيد اكتشافات أثريّة وحفريات توصلنا إلى البراق، ونظريّات تكوينه ... تلك الـ«كذبة» هي أساس مشروع بعلبكي الذي غاص في التاريخ، وقرأ نقديّاً المقاربات المتحفيّة والأنتروبولوجيّة الغربيّة لحضارتنا، وعاد فكوّن كل القطع الأثريّة والأدوات والوثائق العلميّة، متأنياً في إعادة إنتاج الشكل الخارجي (الفيترينات، الطباعة، المواد) الخارجي الذي يعطي للوهم سلطة أيديولوجيّة.
«عندما نذهب إلى أي متحف، لا نتساءل عن صدقية ما يقدّم لنا، وما يكتب تحت الأعمال المعروضة»، يوضح بعلبكي. «بمجرد دخولنا، نترك السلطة تفرض علينا روايتها». سلطة المتحف هنا، هي رمز لعلاقة الفرد بسلطات ومؤسسات، دينية كانت أو سياسية أو اجتماعية، (استعماريّة أيضاً)، لا يتمّ التشكيك فيها إلا نادراً. إلى جانب الآثار المصنّعة، علّق الفنان صورةً لكل من الملك فيصل الأول والشريف الحسين بن علي والملك عبد الله الأول مرفقة بشروح تاريخية توثيقية. لعل تضمينها مع بقية المواد في هذا السياق يضعها موضع الشك الذي يولده العرض عموماً، في استعارة حول صدقية الروايات الرسمية، وشرعية السلطات السياسية ... كأنّ بعلبكي يحيلنا إلى الأساطير التي تنسجها الدول الحديثة عن تاريخها، ومستعمراتها، وتعيد إنتاجها في أكثر من سياق.
هذا المعرض هو الثاني في ثلاثية يعمل عليها بعلبكي منذ 2007، استهلها العام الماضي في بيروت، ووسّعها في برلين. بيروت هي «الينبوع» بتعبيره، فيها عاش الحرب الأهلية، قبل أن ينتقل عام 2002 إلى برلين ليكمل دراسته في «معهد الفنون الجميلة».
يحتوي محترفه في برلين على جداريات تبرز تأثره بالتجريدية الألمانية. يستخدم ألواناً قوية كالأحمر النبيذي والأصفر ليصف «مزاجه وحالة بيروت المتقلبة والمتناقضة». يجعل هذا التناقض صارخاً عندما يوظف هذه الألوان لمواضيع التشرد والحرب، عبر تيمة الحقائب مثلاً. في لوحات أخرى، يخدعنا لنبحث عبثاً عن جسد للبذلات العسكرية الخالية. رغم هذا الفراغ، تبدو البذلات كأنّها حية بفعل رمزية الألوان المستخدمة. كأنّ أعماله تجسيد لكوابيس بيروت التي تلاحقه في برلين ...
رغم صغر سنه، تمكّن من تكريس وجوده على الساحة الدولية خلال العقد الذي تلى معرضه الفردي الأول عام 2000. في مدينة كبرلين حيث تحتدم المنافسة بين الفنانين، يعيش اليوم من فنّه. ليس هذا معيار النجاح الوحيد: ثقافة بعلبكي الجامعة بين الشرق والغرب، وحسّه النقدي، وخلفيّته الأكاديمية، وموهبته كلّها تضيف إلى أعماله عمقاً وتميّزاً.

«البراق ٢: ممالك الوهم»: حتى الأول من أيار (مايو) المقبل ــــ «متحف جورج كولبي» (برلين/ ألمانيا).
www.georg-kolbe-museum.de