الامتيازات التي يتمتّع بها النظام السوري، كان من الممكن أن تجعله أقل هشاشة من الأنظمة العربيّة المتهاوية تباعاً، (رغم اشتراكه معها بآفات قاتلة كالفساد وقمع الحريات العامة ومصادرة الحياة السياسيّة): من اقتصاد مستقرّ ذي توجّهات اجتماعيّة، ومديونيّة خارجيّة شبه معدومة، مروراً بـ«الخطاب العلماني» ووضع الأقليات، إلى خيار الممانعة الذي جعل سوريا على مرّ العقود معقل «العروبة» ورأس حربة «الصمود والتصدّي».
وبين الاثنين يمكن أن نشير إلى الشعبيّة التي تمتّع بها رئيس شاب جاء السلطة محمّلاً نيّة الانفتاح... وإلى التفاف الشعب حوله في ردّ فعل على الضغوط الدوليّة التي مورست عليه طوال السنوات الماضية، لأهداف لا علاقة لها بالديموقراطيّة ولا بحقوق الإنسان، وخصوصاً أن المأساة العراقيّة كانت شاخصة في الأفق، درساً وقدوة، ونموذجاً للتجربة التي لا يطمح أي شعب عربي إلى تكرارها.
لكن الدروس لم تعد تقتصر على العراق الجريح، والنماذج تعددت منذ إسقاط ديكتاتوريّة صدّام حسين على يد (حليفه السابق) الكاوبوي المتغطرس الذي لا يحمل لبلادنا (أياً كان اسم والده، ولون بشرته أو عائلته السياسيّة) سوى مزيد من الانهيار والتفتّت والتبعيّة والخضوع. الشعوب العربيّة باتت تعرف اليوم أنها قادرة على إملاء «إرادتها»، وعلى فرض التغيير بنفسها، بعد عقود من الظلاميّة والاستبداد ميّزت الحياة السياسية العربيّة من المحيط إلى الخليج. تجربتا تونس ثم مصر، كانتا أيضاً «امتيازاً» من امتيازات النظام (إذا عددنا المسؤولين في سوريا يشاهدون الفضائيّات العربيّة والعالميّة). لقد كانت الإدارة السوريّة محظوظة، لأنها شهدت البروفا مرّتين، بالحجم الطبيعي، على أرض الواقع الشبيهة بأرضها. وكانت تتمتّع بالوقت الكافي لاستباق أي أزمة، واحتواء الغضب الشعبي، واستخلاص قائمة بالأخطاء التي لا ينبغي ارتكابها في مواجهة الشارع...
لكن نظرة بسيطة إلى الخطاب الرسمي، كما تعكسه المحطات السوريّة، منذ انتفاضة درعا التي امتدّت إلى مختلف أنحاء البلاد، تكفي للتيقّن من أن السلطة لم تحسن الاستفادة من تلك الفرصة الذهبيّة، ولم تفهم دروس التاريخ القريب. من رواية «العصابة» ثم «المندسين»، ونظريّة «المؤامرة الخارجيّة» (أنباء عن اعتقال لبناني وخمسة مصريين، إقحام الفلسطينيين أيضاً) إلى التلاعب بالحساسيّات الطائفيّة بحجّة حماية الوحدة الوطنيّة والسلم الأهلي... وقع النظام في فخ الابتزاز نفسه الذي شهدناه في تونس ومصر، ونشهده في اليمن وليبيا والبحرين («أنا» أو الإرهاب، أو الحروب الأهليّة، أو الفوضى، إلخ)... لم يسمع صراخ الناس، بل فعل كل ما بوسعه لإذكاء الغضب الشعبي، علماً بأن التظاهرات الأولى في دمشق وسواها تفادت ذكر الرئيس أو النظام، بل اكتفت بالتضامن مع أهل درعا، والمطالبة بالحريّة و... «إسقاط المحافظ». أمام التلفزيون السوري منذ مساء الجمعة، يخالجنا الانطباع بأننا شاهدنا تلك المهزلة من قبل، عشيّة انهيار بن علي ثم مبارك. اللغة الخشبيّة نفسها، و«الدكتور» الضيف يتحدّث عن مؤامرات الغرب، ويذكر عشرات المرّات «الرئيس الخالد» ثم «الرئيس المفدّى». كنا نتمنّى سجالاً مع أحد المعارضين مثلاً، ولو عبر الهاتف. المذيعة تعطي دروساً في الوطنيّة، ما إن تذكر عبارة «مطالب محقّة» حتى تلحقها بـ«مندسّين». تتكلم بنبرة عالية وإيقاع هستيري، مثل حسناوات محطّات الألعاب حين يحرّضنك على الاتصال بأحد الأرقام أسفل الشاشة، لتربح الجائزة الكبرى.
أسفل الشاشة يعبر شريط الأخبار: «قناة الإخباريّة السوريّة تتعرّض لتشويش متعمد على نايل سات»، «البوطي (الشيخ الذي يتلقّى عادة إشارات إلهيّة) يحذّر من اتباع أهل الجهالة»، «وزارة الداخليّة السوريّة تشكر الإخوة المواطنين على مشاعرهم الصادقة، وترجوهم عدم الخروج إلى الشارع وإطلاق أبواق السيارات والألعاب الناريّة حفاظاً على راحة المواطنين»، «أبناء الجالية في شرق الساحل الغربي من الولايات المتحدة (أو شيء من هذا القبيل)، يوجّهون تحيّة إلى الإعلام الرسمي، ويشكرونه على نقل الأحداث بشفافيّة». الكاميرات تنقل تظاهرات التأييد للرئيس، والاتصالات الهاتفيّة ترد من كل المناطق، هنا عضو في مجلس الشعب، وهناك عضو في مجلس المحافظة، يكررون الأمثولة: وحدة سوريا في وجه المؤامرة الخارجيّة. «أنا أتكلّم من أمام مركز حزب البعث في اللاذقيّة ــــ يقول أحدهم ـــ وليس صحيحاً أنّه أحرق». أوكي يا «رفيق»، صدقناك، واصل على هذا المنوال. طبعاً خبر الإحراق لم يرد على الشاشة السوريّة، بل على محطّات أخرى كـ«الجزيرة» التي لا تزال حذرة في تغطية الحدث السوري، والـ«بي. بي. سي. عربيّ» التي تميّزت، مرّة جديدة، بدرجة عالية من المهنيّة والأمانة.
هنا تطالعنا لقطات من التظاهرات الشعبيّة العارمة في مختلف المدن السوريّة، ومشاهد من تحطيم التماثيل وتمزيق الصور... ونسمع كل وجهات النظر، وأرقاماً مؤلمة عن عدد القتلى الذين أردى بعضهم قناصة غامضون لعلّهم من أدوات تلك «المؤامرة الخارجيّة». وتأتينا شهادة السينمائي محمد ملص كالترياق. إنّه أوّل مثقف سوري في الداخل يتكلّم في الإعلام منذ تظاهرات الجمعة. يقول ما معناه: «الأمن مسؤوليّة النظام، فهو يمسك بزمام الأمور وعليه حماية المواطنين... وعليه أيضاً أن يسمع غضب الناس. لو لم تصل الأمور إلى حد يفوق طاقة الشعب على الاحتمال، لما نزل إلى الشارع مطالباً بالحريّة والعدالة».




سحبت السلطات السورية اعتماد مراسل وكالة «رويترز» بداعي تغطيته «الكاذبة وغير المهنية» للأحداث في البلاد. ونقلت الوكالة أنّه طُلب من مراسلها خالد يعقوب عويس، المقيم في سوريا منذ شباط (فبراير) 2006 مغادرة البلاد مساء الجمعة الماضي. وأبلغه مسؤول في وزارة الإعلام: «سُحب اعتمادك، وأنت مطرود بسبب الأخبار الكاذبة وغير المهنية التي تنقلها». وعلّق رئيس تحرير «رويترز» ستيفن ادلر على قرار الطرد، قائلاً: «نأسف لقرار الحكومة السورية إبعاد مراسلنا. لكنّنا متمسكون بتغطيتنا وملتزمون الاستمرار في نقل الأخبار الدقيقة والموضوعية عن سوريا». وعويس، الأردني الجنسية، أول مراسل أجنبي يُعتمد لوكالة الأنباء الشهيرة في دمشق. وقد سبق أن نشر مقالات صحافية عدة من بغداد، وبيروت، وعمّان، ولندن...