«يجب أن أتوقّف عن صناعة الأفلام. يجب أن أذهب إلى مصح المجانين». قال المخرج الألماني فيرنر هرتزوغ (1942) هذه العبارة أثناء تصويره فيلم «فيتزكارالدو» (1982)، الذي رفع فيه باخرة على جبل. يمكن اعتبار هرتزوغ سينمائياً غريب الأطوار، إن لم يكن مجنوناً، لكنه بالتأكيد مخرج حالم. زميله الفرنسي الراحل فرانسوا تروفو عدّه «أهم سينمائي على قيد الحياة». لا يبتسم إلا نادراً. صوّر في القطب الجنوبي والبيرو والأمازون، وطهى حذاءه وأكله. وضع معظم الممثلين في «قلب من زجاج» (1976)، لاجئاً إلى التنويم المغناطيسي خلال التصوير. الممثل الألماني كلاوس كينسكي ـــــ المجنون هو الآخر ـــــ كتب عنه في مذكراته: «بائس، كاره، حاقد، خادع، متعطش إلى المال، مقرف، سادي، غدّار، جبان. يجب أن يُلقى به حياً إلى التماسيح». أخرج هرتزوغ 18 أوبرا وثلاث مسرحيات، وافتتح مدرسة للسينما علّم فيها تزوير تصاريح الأفلام وفك الأقفال. رفض أن يوصف بالفنان، بل فضّل كلمة «حرفي» و«فاتح ما لا جدوى منه».في معظمها، تنطلق أفلام هذا المخرج الألماني من كونها مساحة جمالية تعبّر عن أشكال مختلفة من الصراع الإنساني. شخصياته ـــــ سواء في أفلامه الوثائقية أو الروائية ـــــ تجد نفسها غالباً في مواقف صعبة. أفراد يصارعون لتحقيق أحلامهم، ضائعون في نزاعات داخلية، يتحدون الطبيعة أو يتحدون قواعد المجتمع. وجوديون من دون أن يدركوا ذلك. وصف مرة أبطال أعماله «بالحالمين المحترفين»، وهم بالتالي انعكاس لشخصية هرتزوغ الحقيقية.
التظاهرة التي تقيمها جمعية «متروبوليس» بالتعاون مع معهد «غوته» في لبنان بعنوان «ما وراء الحدود»، تمثّل فرصة ثمينة للاطلاع على بعض نتاج أحد أهم مخرجي السينما الألمانية الجديدة، إذ يشتمل برنامج «متروبوليس أمبير صوفيل» على ثمانية أفلام لهرتزوغ بين روائي ووثائقي، ومعرض فوتوغرافي للمصوّر السويسري بيت بريسير الذي عمل مع فيرنر، إلى جانب محاضرة عن أعماله تقدّمها غرازيا باغانيلي، رئيسة البرمجة في «المتحف السينمائي الوطني» في تورينو الإيطالية (30/ 3، س: 9:00)، إضافة إلى إطلاق مجموعة أفلامه على dvd. تفتتح التظاهرة بفيلم ««فيتزكارالدو» (29/ 3، س: 8:00)، أحد أهم أعمال هرتزوغ وأكثرها صعوبة في الإنتاج. الفيلم الذي كتبه فيرنر مبني على قصة حقيقية، عن براين فيتزجيرالد (كلاوس كينسكي) الذي يقرر خوض تجارة المطاط في البيرو، لجمع ثروة يستطيع بها تحقيق حلمه في بناء دار للأوبرا في مدينة إيكيتوس وسط الأدغال. مشاكل عدّة مرّ بها إنتاج الفيلم، بينها صعوبة رفع الباخرة ذات الـ300 طن على الجبل. ورغم بعض العيوب في الفيلم، إلا أنّ مشاهده تنطوي على سحر السينما في أبلغ تجلياته. في فيلم «آغيريه، غضب الربّ» (1972ـــــ 1/ 4، س: 8:00) نشاهد قصة الجندي الإسباني لوبيه دي آغيريه، وتدهوره نحو الجنون، في رحلته مع بعض المستعمرين الإسبان إلى الأمازون، بحثاً عن مدينة الذهب الأسطورية إلدورادو. والعمل الذي شهد أوّل تعاون بين فيرنر هرتزوغ وكلاوس كينسكي، أطلق اسم المخرج الألماني إلى الساحة العالمية.
أما شريط «حتى الأقزام بدأوا صغاراً» (1970ـــــ 31/ 3، س: 8:00)، فتدور حبكته عن ثورة للأقزام في مركز للاحتجاز. كذلك، سيعرض شريطه «دروس في العتمة» (1992ـــــ 30/ 3، س: 8:00)، عن آثار الدمار التي خلّفتها حرب الخليج الأولى. الفيلم الوثائقي غير التقليدي في بنيته، لقي استهجاناً لدى عرضه في «مهرجان برلين السينمائي»، بوصفه عملاً يعطي بعداً إيجابياً وجماليّاً للحرب. لكن السينمائي وقف صارخاً في وجه الجمهور البرليني قائلاً «أنتم جميعاً مخطئون، لم تفهموا شيئاً!».
ما يميّز أعمال فيرنر هرتزوغ، وخصوصاً الوثائقية، هو ذلك الخيط الرفيع بين الحقيقة والخيال. لا يستطيع المشاهد التفريق أحياناً بين ما إذا كان هذا الفنّان يوثّق الواقع أم يزوّره. على أي حال، هو لا يهتم بذلك كثيراً، بل يؤمن بأنّ «تلك الحقيقة الشعرية المنتشية لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق التزييف والخيال»، كما في فيلم The Wild Blue Yonder (٥/ ٤، س: ٨٠٠) الذي ينتمي إلى الخيال العلمي رغم اللقطات الوثائقية التي يحتوي عليها.
في فيلم «قلب من زجاج» (3/ 4، س: 8:00)، يموت مالك سرّ تصنيع الزجاج الأحمر، ما يحبط سكان القرية التي تعيش على هذه الحرفة، ويجعل صاحب المصنع مصمّماً على اكتشاف السر. في «نوسفيراتو: شبح الليل» (1979ـــــ 4/ 4، س: 8:00)، يؤدي كينسكي دور الكونت دراكولا في نسخة مغايرة لما اعتدنا رؤيته. علاقة هرتزوغ المجنونة بكينسكي التي شهدت دوماً عراكاً رهيباً، يوضحها في فيلمه الوثائقي «صديقي الحميم» (1999ـــــ 2/ 4، س: 800) الذي يعود فيه فيرنر إلى بعض الأماكن التي شهدت تلك العلاقة. هرتزوغ ـــــ بحياته وأفلامه وذكرياته وعلاقته مع كينسكي ـــــ قد يكون روح السينما في بحثها عن الحقيقة غير السطحية، حقيقة المعنى الباطن من خلال سينما الأحلام والواقع المتخيّل.

«ما وراء الحدود»: من 29 آذار (مارس) إلى 5 نيسان (أبريل) ـــــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية/ بيروت). للاستعلام: 01/204080