شاقّة هي الحياة في اليمن، والموت أيضاً. عناء كبير هناك، وانتظار أبدي هنا. نسأل أنفسنا، ونحن نستكمل قراءة الأعمال القصصية الكاملة لزيد مطيع دمّاج (1943ـــــ2000): ماذا لو لم يكن هذا الأديب يمنياً، وخُلق في بلاد أخرى؟ لا مكان للشكوى هذه الأيام، نعرف. هو وقت الثورات النبيلة، والاحتفاء بما يليق بها. رحل الروائي والقاص اليمني الكبير في آذار (مارس) عام 2000. لم يكن يعلم أن وزارة الثقافة اليمنية ستنتظر 11 عاماً قبل أن تجمع أعماله الكاملة في كتاب واحد، يضمّ خمساً من أشهر مجموعاته القصصية «طاهش الحوبان»، و«العقرب»، و«الجسر»، و«أحزان البنت مياسة» و«أزمة البنت بشرى». في تقديمه للكتاب، يقول الناقد والشاعر اليمني عبد العزيز المقالح إنّ القاص الراحل «كان يكتب لأنّ الكتابة دعوة إلى الفعل». كيف لا ودمّاج ابن ثورة اليمن الأولى، نشأ في ظلّها، قبل أن يأكلها الطارئون وأبناء الليل. أنقذته تلك الثورة من دائرة الملاحقات الدائمة، باعتباره ابناً لأحد الثوار المشايخ الناقمين على الإمامة حينها. ثورة دفعت بالوالد مطيع بن عبد الله دمّاج إلى اللجوء إلى مدينة عدن (جنوب اليمن)، وهناك عاود نشاطه الثوري من خلال الكتابة. وسط ظروف الملاحقات تلك، ولد زيد. حالما خرج إلى الحياة، صار واقعاً تحت شرط الإخفاء كي لا يعرف بوجوده الإمام، فيأخذه رهينة إلى حين عودة أبيه. كان ذلك أحد أساليب الضغط على الثوار في وجه المملكة المتوكلية اليمنية (1911ـــــ1962)...
نجا زيد من «الرهن»، ليقع فيه ابن عمّه أحمد قاسم دمّاج الذي سيصبح لاحقاً من أهم الشعراء اليمنيين، وأحد رموز الحركة الأدبية في بلاده، ودعامة رئيسية لرواية زيد الشهيرة «الرهينة» (دار الآداب ـــــ 1984/ رياض الريّس ــــ 1997).
في «الرهينة» التي صدرت طبعتها الخامسة بالتوازي مع صدور الأعمال القصصية الكاملة، يقدّم زيد مطيع دمّاج ملخَّصاً عن حياة الرهائن في قصور الحكم. يدعّم سرده بتفاصيل من خلف الأبواب المغلقة. حياة سريّة، يعرّيها القاص والروائي اليمني، لا بنيّة الفضح والهتك، بل برغبة تمعن في إيضاح ما كان غامضاً لسنين طوال. تظهر هنا جليّة موهبته في التقاط التفاصيل عن طريق الإنصات، وخصوصاً حين يصف الزوايا الداخليّة. اتجاهه نحو وصف الأماكن الخارجية، سيظهر البطل كالغائب عن الحكاية، فاضحاً الراوي، وخصوصاً أنّ الرهينة الأصلي لم يشاهد ما يحدث وراء الأسوار العالية.
مطبّ لم يقع فيه الأديب الفرنسي أندريه مالرو في «الشرط البشري» (1933)، إذ تحاشى إخراج الوصف من بيوت شانغهاي المعتمة. في حالة «الرهينة»، يمكن أن نتلمّس قدرة صاحبها على توسيع الرؤية، واجتهاده في الإنصات، ومهارته في التقاط التفاصيل التي يرميها غيره بإهمال. لهذا اشتهر بكونه كاتباً يجيد اقتفاء أثره الشخصي، وأثر أصدقائه أيضاً، ليكتب حياتهم بالنيابة عنهم. وعندما كانوا يقلّبون صفحاته، كانوا يكتشفون ذواتهم، ويتلمّسون مواضع فاتتهم. في هذا الإطار، تبدو كتابة زيد دمّاج كتابةَ الإبهار والدهشة.
هذا ما ينسحب بالضرورة على المكان/ اليمن. نجده يذهب في إعادة صياغة المناخ العام بحلاوة، وبذائقة فنّان يستمتع بما يفعله إلى أقصى الحدود. يعيد تقديم اليوميات بالشكل الذي يريد لها أن تظهر به، أو بالأحرى، يعيد إظهار حقيقتها المدفونة تحت رماد الأيام المظلمة. هذا ما دفع الراحل عبد الرحمن منيف إلى رثاء دمّاج، متمنياً لو أنّه عاش لفترة أطول، كي يكتب لنا عن «عالم نحبه كثيراً، لكن نجهله أكثر».
برع دمّاج في نقل صور وحيوات كاملة لأشخاص من لحم ودم. امتهن إعادة ترتيب الأحداث والأيام، كأنّه يكوّن ما يشبه سيرة ذاتية لوطن مقصي، يجهله الآخرون. انشغال جاء ثمرة لحضوره الدائم في مساحات مختلفة ومتفاوتة داخل المجتمع اليمني، ووسط طبقاته المعقدة.
ليس سهلاً بالطبع أن تكون ابناً لشيخ، ومن المقدّر لك أن ترث المشيخة مع كلّ ما يتيحه هذا اللقب من ميزات... استفاد دمّاج من هذا الواقع لملامسة مناخات مختلفة ومتفاوتة، تراوح بين القمة والقاع، ما انعكس على رؤيته السرديّة. من جهة أخرى، ساعد وجوده في هيكل الدولة الرسمي، وتقلّده مناصب عدة، في اكتشاف أجواء مختلفة عن مجتمع القاع. لكنّ طباعه السمحة كانت تفرض عليه مستوى محدداً من الفضح والتعرية. فقد بقي ينظر إلى تلك الصلة الهشة بينه وبين السلطة، باعتبارها وسيلة لخدمة البسطاء الذين لم ينكر يوماً شرف الانتماء إليهم. كتب زيد مطيع دمّاج مبشراً بقدوم أيام التغيير التي نشهدها اليوم، كأنّه كان متيقناً من حتمية تحققها. لعلّه يشهدها الآن من مكان بعيد، ويبتسم. ليته كان معنا.
www.dammaj.net