حطّت «قاعة باخ لموسيقى الحجرة» رحالها أخيراً في أبوظبي. بديعٌ تصميم زها حديد (الصورة) لهذه القاعة الموسيقية المتنقلة التي أنجزتها بتكليف من «مهرجان مانشستر الدولي» و«مهرجان هولندا» عام 2009. مرة أخرى، تبتكر المعماريّة العراقية مشهداً بصرياً جديداً، لا يحاكي السائد، ويثبت أن التصميم في العمارة لا يمكن حصره في الأشكال الستاتيكية، ولا يمكن إخضاع فضاءاته لأحكام المواد المستعملة تقليدياً.
«جناح زها حديد» ــــ Zaha Hadid’s Pavilion ــــ كما يحلو لمنظمي «مهرجان أبوظبي للموسيقى والفنون» تسميته ــــ ينتصب الآن في باحة «قصر الإمارات» إذاً، ليحتضن سلسلة عروض موسيقيّة تنطلق مساء اليوم وتستمرّ حتى 29 آذار (مارس) الجاري، تحت عنوان «إبداع الشرق: إرثٌ موسيقيٌّ، مِعمارٌ إنساني» (راجع المقالة أدناه).
تقول زها حديد إنّ المشروع المعماري الضخم صُمّمَ خصيصاً ليحتضن عروض الأداء الفردي لموسيقى جان سيبستيان باخ، وإنَّه «يعزّز التعددية في أعمال المؤلف الألماني، من خلال التكامل بين منطق بنيانه، وتركيبه الموسيقي». وللتعبير عن هذا التكامل، استعانت حديد بشريط واحد متّصل، مصنوع من النسيج، يكسو هيكلاً معدنياً، ويلتفّ حول نفسه كالدوامة، خالقاً طبقات وفضاءات داخلية متراصّة ومتغيّرة. الهدف من هذه الطبقات خلق جو من الحميمية، يستجيب بصرياً وفنياً للعلاقات الهارمونية المعقّدة في أعمال باخ.
لا تتسع القاعة لأكثر من مئتي شخص، وقد جمعت زها حديد فيها اعتبارات معمارية أساسيّة، منها المقياس والبنيان الهيكلي وعلم الصوتيات، بهدف تطوير خطاب ديناميكي غير منفصل عن خلق قاعة موسيقية حقيقية. جميل هو عملها، ومحدَّث ومعاصر بالمقاييس التصميمية والجمالية. لكن إلى أيّ مدى ينطبق توصيف المعماريّة الشهيرة، على منجزها النهائي؟ ولماذا حُشر باخ في فضاء هذه القاعة، خصوصاً أنّ حركتها الانسيابية والحلزونيّة لا تلتقي بالضرورة مع موسيقاه التناظرية (Symmetry)، إذا جاز التعبير؟
بالطبع، ليست العلاقة بين الموسيقى والعمارة حديثة العهد، فقد استنفدت الكثير من النقاشات عبر التاريخ. لعلّ أكثر التجارب تعبيراً عن جدلية اللغة المشتركة بين العمارة والموسيقى، تجربة المعمار ـــــ المهندس والمؤلف الموسيقي الفرنسي (اليوناني الأصل) يانيس كزيناكيس (1922 ـــــ 2001). بدأ هذا الأخير حياته معماريّاً إلى جانب لو كوربوزييه، وأنهاها مؤلفاً موسيقياً. كان كزيناكيس طليعياً في إدخال المعادلات الرياضية إلى صلب موسيقاه، واستخدامها لتطوير تقنيات التأليف في ميدان الموسيقى الإلكترونية. لقد سخّر كلّ خبرته الهندسية لمنهجه الموسيقي، القائل بأنّ علم الصوتيات مبنيّ في الأساس على الرياضيات. يتجلّى ذلك في مقطوعته Metastasis التي بنيت أساساً على مفاهيم معمارية.
إلى جانب Iannis Xenakis، قارنت أبحاث عديدة بين بعض مذاهب العمارة وبعض المؤلفات الموسيقية الكلاسيكية. ركّزت هذه الدراسات النظرية على إيجاد ترجمة لطرازات معمارية من خلال بعض المقطوعات، وحاولت في المقابل البحث عن الموسيقى الكامنة في مخططات بعض المعماريين. وإذا أردنا اليوم إسقاط تلك الأبحاث على «قاعة باخ لموسيقى الحجرة» كما صمّمتها زها حديد، فإنّ ذلك سيضع التجانس بين البناء وموسيقى المؤلف الألماني موضع شكّ.
تزيّن صور العمارة القوطية معظم أغلفة أسطوانات باخ، إلا أنّ الأدلّة على استلهامه للعمارة قليلة وافتراضية. ورغم تسليم النقاد بالتجانس بين العمارة القوطية، وما ألّفه باخ في النصف الأول من القرن التاسع عشر، عجزوا عن تحديد منهج واضح لإقامة تلك المقارنة. من جهة ثانية، اقترح الناقد ريمون كورت عام 1989، ضرورة وضع موسيقى باخ وجهاً لوجه مع العمارة القوطية، كأنّهما على جانبي مرآة، لاكتشاف التماثل الأسلوبي بينهما، إذ قد تسهل مشاهدة الصروح القوطية كأنّها انعكاس لموسيقى باخ، لكن من جهة أخرى، يمكن فهم موسيقى باخ عبر العودة إلى قاعدة أرساها معماريو عصر النهضة: «التناسب، التناغم، التركيب المناسب»، على النقيض من العمارة القوطية غير المتناظرة.
نقّاد كثر بحثوا في البنيان الهيكلي لموسيقى باخ، وراحوا يصدرون بياناتهم على شكل مخطّطات، تميل إلى تصاميم هندسية ستاتيكية ورقمية. كذلك يجد المتتبعون لأعمال المؤلف الألماني، أنّ هذا الأخير أظهر اهتماماً بالتصميم التناظري، خصوصاً في مؤلفاته الكورالية. في الخلاصة، تقودنا المقارنة بين مؤلفات باخ وبعض النظريات المعمارية إلى أنّ بنيان تلك المؤلفات يشتمل على بعض التناظر symmetry، وأن ترتيبها محكوم بالتناسب proportionality.
من المؤكد أنّ المقارنة بين المقاييس المعمارية والموسيقى تثبت نفسها إشكاليةً مهمّة. ويعيدنا عمل زها حديد في «قاعة باخ لموسيقى الحجرة» إلى تلك الرغبة الملحّة بوضع الموسيقى في فضاء ما. لكنّ ذلك الفضاء المفترض لموسيقى باخ، لن يكون على الأرجح شبيهاً بما خلقته المعمارية العراقية.

www.abudhabifestival.ae