«في اللحظة التي نُظر إلى الجنون بوصفه أفقاً اجتماعياً للفقر، ولعدم القدرة على العمل، ولاستحالة الاندماج مع الغير، في تلك اللحظة نفسها، أصبح الجنون جزءاً من مشكلات المدينة». من خلال هذا الاقتباس المأخوذ من كتاب ميشال فوكو «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، يمكن مقاربة الفيلم المصري «ظلال» لماريان خوري ومصطفى الحسناوي الذي يعرض ضمن «مهرجان شاشات الواقع» في بيروت. يدخل السينمائيان القاهرة من البؤرة الأشدّ تأزماً في مكوّناتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أي المصحّات العقلية... تجوال الكاميرا في أروقة المستشفيات يفضي إلى قصص لا تنتهي. ومع نهاية الفيلم المحمول على بحر متلاطم من المآسي، سنكون أمام سجلّ بصريّ ضخم، يوثّق لحياة بشر على الهامش، ملفوظين من كل مكوّنات ذاك المجتمع، بما في ذلك العائلة.في فيلم خوري والحسناوي ثمّة تدافع في القصص والمصائر. هناك عذابات من يسلّم ابنه إلى المصح وهو لا يجد خياراً آخر أمامه. وفي الوقت نفسه، تبدو تلك مصحّات متآكلة ومتهالكة، تتعامل مع من يوصفون بالجنون كأنّهم مساجين، لكن من دون فترة محكومية. سنتعرف إلى كثر يخرجون من المصح فيعودون إليه، كأنّ الطريق إلى المصحات العقلية هو التهميش الاجتماعي ورفض فئات مترامية من الشعب، تجد ملاذها بين جدران مستشفى الأمراض العقلية. وهنا أيضاً يحضر سؤال كبير: من هم هؤلاء «المجانين»؟ وتأتي الإجابة حمّالة أوجه كثيرة، لا تستعين إلا بشهادات المرضى وقصصهم وأحلامهم وكوابيسهم.
يصلح عنوان الفيلم لأن يكون توصيفاً للأشخاص الذين يظهرون فيه. الحالات التي يرصدها تكشف أنّ البنية التقليدية للأسرة المصرية أو العربية عموماً، تتبنى سلوكية محدّدة، لن يكون الخروج منها إلا جنوناً، حتى وإن كان هذا الجنون أكثر حكمة وأنصع حقيقة من تلك البنى التقليدية. ندخل هنا في نفق إيجاد تعريف خاص للجنون، يلتقي بالخرافات والمعتقدات الشعبية، واعتبار أي تصرف عصبي أو هستيري حالة مسّ، أو تلبساً لشيطان وغير ذلك من معتقدات شعبية واسعة الانتشار.
في الفيلم، أشخاص أمضوا أكثر من 40 عاماً بين جدران المصحات. هناك عائلة كاملة محتجزة لأنّها تعدّ ممسوسة بشيطان أو جنّي! يزدحم الشريط بمعتقدات تنقل خرافاتها وخلوها من أي ملمح علمي، لكنّها تختلط بمفاهيم الطب النفسي. هذا الطب عرفه العرب قبل غيرهم من الشعوب منذ مئات السنين، مع مستشفيات الأمراض النفسية التي أقيمت في الشام ومصر في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، وصولاً إلى مؤلفات الرازي وابن سينا اللذين كانا يتعاملان مع المرض النفسي بوصفه بعيداً كل البعد عن مفاهيم مثل المسّ والشياطين والجانّ.

«ظلال»: 8:00 مساء الجمعة 25 آذار (مارس) ــــ «متروبوليس أمبير صوفيل» ــــ بحضور المخرجة ماريان خوري