قليلون هم المفكّرون العرب الذين يضاهون جورج طرابيشي موسوعية وعمقاً. الناقد والروائي والمترجم السوري الذي تنقّل منذ الستينيّات من أيديولوجيا إلى أخرى، ناصرياً ثم بعثياً فماركسياً ثم ليبرالياً، رسا منذ بداية التسعينيات، على برّ صناعة الابستيمولوجيا، ونقد نظم المعرفة. لقد كان لمشروع «نقد العقل العربي» للمفكّر المغربي الراحل محمد عابد الجابري،
عميق الأثر في توجيه اهتمامات المفكّر السوري نحو إنتاج سلسلة ردود بعنوان «نقد نقد العقل العربي». كانت خاتمة تلك السلسلة كتاب طرابيشي الجديد «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» («دار الساقي»، بالاشتراك مع «رابطة العقلانيين العرب»).
إذا أردنا استعمال أدوات التحليل النفسي التي اشتهر طرابيشي بإدخالها إلى نقد الرواية العربية، يمكن وصف علاقة طرابيشي بمشروع «نقد العقل العربي» وبصاحبه، بأنّها علاقة الذات بـ«الأنا الأخرى». وها هو يقرّ بذلك في آخر هذا الجزء الخامس والأخير، بعدما خطف الموت الجابري نهاية العام الماضي. لقد كان ذلك بمثابة التحرّر له من شبح «الأنا الأخرى» الجابرية، فاتّجه إلى بناء «إشكاليته الخاصة عن استقالة العقل في الإسلام»، من دون أن يحتاج إلى أن يعنون العمل «جزءاً خامساً» من مشروع «نقد نقد العقل العربي».
يبدأ كتاب طرابيشي بالجملة المفتاح «القرآن خطاب قبل أن يكون نصّاً». المسألة بالنسبة إلى الكاتب دراسة الخطاب الإسلامي، قرآناً وسنّةً، وتبيان كيف «أنّه، في حضارات النص المقدّس التي تقدّم الحضارة العربية الإسلامية نموذجها الأكثر نموذجية، قد يكون العقل أوّل ما يتقدّم، كما أوّل ما يتأخّر».
يبدو طرابيشي في كتابه أقرب إلى شيخٍ متبحّرٍ في الأحاديث النبوية والعلوم الشرعية، السنّية حصراً من دون الدخول في فرضياتها أو نتائجها. يحاول البرهنة على نشوء إيديولوجية حديثية (من كلمة «حديث»)، منذ مهمة الرسول وهي التبليغ «حصراً» التي كرّست ما سمّاه الكاتب «الإسلام القرآني»، مروراً بكتّاب السيرة والتفسير والفقه والحديث. ومن بين هؤلاء، يبدأ مع مالك بن أنس، صاحب «مدرسة الرأي» الحجازية في الحديث بحسب طرابيشي، مروراً بالإمام الشافعي الذي يصفه بالـ«وسطي» في «الإيديولوجيا الحديثية»، مخالفاً بذلك كثيرين قبله أمثال أحمد أمين، الجابري، ونصر حامد أبو زيد. أمّا عند أبي حنيفة والمعتزلة أو الفلاسفة، فلا يمكن وصف العقل «بنصاب المشرِّع» حسب الكاتب، ولو مثّل هؤلاء السقف الأعلى للعقل في الإسلام.
كلّ ذلك يستمرّ حتى ابن حزم الذي تحوّل الإسلام عنده إلى «إسلام الحديث»، والرسول «من مشرَّع له إلى مشرِّع... في الظاهر فحسب، أما في الباطن، أي على صعيد البنية التحتية للصناعة الحديثية، فالعكس هو الصحيح». يتابع طرابيشي تحليله وصولاً إلى المرحلة بين القرنين الثالث والعاشر الهجري، مع ابن قتيبة والطحاوي والشعراني وآخرين أسهموا في «انقلاب» المدوّنة الحديثية. فأولئك الذين «أباحوا لأنفسهم أن يكذبوا على الرسول، وأن يتمادوا في الكذب عليه، قد نصّبوا أنفسهم في حقيقة الأمر مشرّعين، ونسبوا إلى تشريعهم هذا مصدراً إلهياً، وذلك بقدر ما نسبوه إلى الرسول باعتبار أنّ الرسول لا ينطق عندما ينطق بوحي من الله طبقاً للتأويل الذي كرّسه الشافعي». إنّ كلّ ذلك إشكالي وأحرى بعلماء الفقه أن يجيبوا عنه، وهو لا بدّ أنّه سيمثّل نواةً لنقاش مقبل، قد يكون حامياً.
رغم موسوعيته الفقهية، يفتقر الكتاب إلى تحليل سوسيولوجي تاريخي، يربط الخطاب المدروس بالواقع المادي الذي ينتجه. يصحّ هنا تكرار النقد الذي وجّهه إعجاز أحمد القاسي إلى إدوارد سعيد في ما يتعلّق بخطئه المنهجي في اعتبار الخطاب الاستشراقي وحدة صالحة للدراسة تستمرّ لمئات السنين. أمّا هنا، والخطاب القرآني والحديثي تتعدّى ديمومته ألف سنة ونصف ألف، فهل يمكن تجاهل العوامل التاريخية والمادية والجغرافية لدراسة ما يسمّيه «العقل العربي الإسلامي»؟ ألا يدخل جورج طرابيشي في منهجية مفرطة المثالية، عندما يعلن شمولية «العقل» المفصول عن الواقع المادي، لتحليل البنى المعرفية؟ هو في ذلك أشبه بفلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر الذين تعرّضت منهجيتهم لنقد كافٍ من تيارات فلسفية لحقتهم. كلّ ذلك يختلط بثقافوية جوهرانية عن الإسلام والعرب، عندما يتحدّث طرابيشي عن «إيديولوجيا شمولية حديثية، غير مسبوق إليها في تاريخ الإديولوجيات، لأنها تتدخل في الجزئيات كما في الكليات».
من المثير للسخرية اليوم أنّ يكون الحديث عن المثاليات الابستيمية كالتي في كتب طرابيشي عن «استقالة العقل من الإسلام... التي كانت سبباً في ممانعة للحداثة» في العالم العربي الإسلامي. مثاليات «تنذر في يومنا هذا بالتحوّل إلى ردّة نحو قرون وسطى جديدة، بينما أصبح واضحاً أنّ الشعوب العربية بثوراتها اليوم، أثبتت أنّها أكثر حداثة من مثقفيها وجلدهم الدائم لذاتهم، ولها ولثقافويتهم الرجعية». إنّه لقدر عجيب ربما، أن تشهد وفاة محمد عابد الجابري، ميلاد «الشيخ» جورج طرابيشي، كل ذلك بينما تطحن مقولة «العقل العربي الإسلامي» تحت أقدام الشعوب العربية.