في إطار فعالية «أشغال داخلية 7» التي قدّمتها «أشكال ألوان» واختتمت أوّل من أمس، قدّم ربيع مروة عمله الأخير «أنشودة الفرح». هذه المرّة، يعود إلينا مروّة بعمل شاركت في كتابته الكاتبة والممثلة الفلسطينية منال خضر المقيمة في بيروت.
الشاشة تلعب دوراً أساسياً في عمل مروة. لا نتحدّث هنا عن الشاشة العريضة خلف خشبة المسرح فقط. في هذا العرض، شمل استعمال الشاشة كل أنماط الشاشات؛ شاشات الهواتف والألواح الذكية، الشاشة العريضة ليقارب مروّة فهمنا وبناءنا للتاريخ، مستعيناً بعملية ميونيخ الشهيرة التي نفذتها مجموعة من الفدائيين من «منظمة أيلول الأسود» الفلسطينية في الأولمبياد الصيفي عام 1972. وبهدف هذه الغاية، لجأ ربيع إلى وسيطين: الصورة كونها وثيقة، والسرد. بدأ العرض بدخول منال خضر على الخشبة وجلوسها على كرسي في العتمة المرفقة بصوت ربيع مروّة يتلو حكاية طفولية عن سكان مدينة يلجأون إلى كبير القوم بسبب عدم قدرتهم على النوم، فيسدي إليهم مجموعة من النصائح التي تتمحور حول سرير أو ما يعرف بالعامية اللبنانية «تخت». في سياق سرده للقصة، تظهر عبارات مروّة على الشاشة، فيتحوّل الكلام الشفهي إلى صورة متحرّكة. فحوى الحكاية يحيلنا مجدّداً إلى الفانتازيا التي تشكل أحد العناصر الأساسية لعمل مروة: كبير القوم ينصح المندوب الذي أرسله سكان المدينة بإحراق أسرّتهم لأنّ المدينة يسكنها الأشباح. ثم ينصحهم مجدّداً بإحراق الأسرّة الجديدة التي صنعوها بعد إحراق القديمة بعد أن يراود الجميع الحلم نفسه (جميع السكان ينامون على سرير كبير واحد في طقس من طقوس العربدة).
اعتماد على شاشات
مختلفة وعلى عملية ميونيخ عام 1972



هكذا، يمضي كبير القوم في خلق الحجج حتى «أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح». من الفقرة الفانتازية تلك المطعمةّ بأدبيات «ألف ليلة وليلة» المتنازع على مؤلّفها، ننتقل إلى نص لجان جينيه من كتابه «أسير عاشق». من أقصى التخييل، ننتقل إلى جمل راديكالية مرفقة بنيغاتيف صورة يُعرض على الشاشة الكبيرة، سرعان ما تتوضح ملامحه. مجموعة من الفدائيين المزهوّين بسلاحهم يبتسمون للكاميرا. ركّز نص جينيه على تعاطي الفدائيين مع الصورة وعلى تلقي الجماهير لصورة الفدائيين. كان جينيه يتحدّث بصيغة الجماعة منصهراً مع شخصية الفدائي: الصورة حوّلتهم إلى نجوم، ثم إلى نجوم «إرهابيين».
بعد هذين النصّين السرديين، ننتقل إلى فائض من الصور الثابتة والفيديو، وندخل مباشرة في تفاصيل عملية ميونيخ حيث احتجزت مجموعة من الفدائيين الفريق الرياضي الإسرائيلي، مطالبة بالإفراج عن 236 معتقلاً في سجون الاحتلال. لجأ الثلاثي لينا مجدلاني (الصانع سابقاً)، وربيع مروة، ومنال خضر إلى عملية ميونيخ بكل تفاصيلها ليركنوا في خاناتٍ منوّعة ومسارات محدّدة ومكثّفة تحيلنا إلى أسئلة عدّة: من يكتب التاريخ وكيف؟ هل يشغلنا افتتاننا بالصورة وبالبطولة عن صدقية ما في التعاطي مع قضايانا؟ هل تستطيع صورة أن تبدل تاريخاً أو تختزله؟ كيف تتحوّل المواقف من القضايا بتبدّل الصور؟ كيف نحضّر ونكتب غدنا إن كان فهمنا وتوثيقنا للماضي منقوصاً؟ ما هو تعريف الإرهاب؟ «ليه ما في رواية فلسطينية بتخبّر شو صار بأيلول الـ72؟». سؤال واحد طرحه الثلاثي وخلص جوابه إلى مجموعة من التخييلات التي تختلط بوقائع تزيد من ضبابية الجواب. ربّما تكمن البذرة الأولى للجواب المرتجى في مقطعٍ سابق لهذا السؤال: «بيقولوا إنّو الفلسطينية بعتوا رسالتين طالبين إنّو فلسطين تشارك بالأولمبياد...». هذا المقطع الذي يحتوي على كلمة «بيقولوا» يحمل بعض الدلالات. ماضينا مبني على خطاب ووقائع شفوية مرتبطة بخيال يتحوّل مع الوقت إلى سلسلة غير متناهية من التخييلات التي يغيب عنها التوثيق الموازي للصورة. ربّما لأجل ذلك، حين تقترب الصورة منّا نُفتن بها لأنّها غائبة. هي غائبة بصفتها مرآة للذات الغائبة أصلاً. «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا»، تلك الجملة الموتيف لم تكن تتكرّر بدافع الصدفة في أكثر من سياق خلال العرض، وقصة السرير ليست مرتبطة فقط بقصة «أبو داوود» (محمد داوود عودة)، أحد أبرز منفذي عملية ميونيخ. عندما تغيب الذات في الحياة، يصبح افتتاننا بالصورة قاتلاً.
لذلك، ركز الثلاثي في كثيرٍ من الأوقات على مخاطبة الجمهور من خلال الصورة: أداروا ظهرهم له وظهرت وجوههم على الشاشة. أرادوا أن يتماثلوا مع شخصياتهم وأن يبنوا في الوقت نفسه مسافةً مضاعفة مع المتلقي، لعلّ شفوية الكلام تكسب بعضاً من سلطة الصورة التي يُساء فهمها أحياناً، إذ تغيب عن نقل وقائع معينة. لذا، حين تحدّث «دكتور سيبر» (عالم النفس الذي حدد ما يزيد عن العشرين سيناريو لأعمال تخريبية قد تحصل في أولمبياد ميونيخ قبل حصولها) عن مفهومه للإرهاب، ابتعدت الصورة وكادت أن تختفي. لا تريد الكاميرا سماع جملة مفادها أنّه لو كان الجيش الألماني أو الأميركي يقوم بهجوم على اليمن ببذات عسكرية، فهذا أيضاً اسمه إرهاب. هنا، تبتعد الكاميرا كوسيلة إعلامية، وهكذا ابتعد ربيع مروة حاملاً «آيفونه» الذي رأينا من خلاله صورة «دكتور سيبر» على الشاشة الكبيرة. في المرّات القليلة التي توجه فيها ربيع مروّة مباشرة إلى الجمهور، أتى حاملاً وثائق الحكومة الألمانية الخاصة بعملية ميونيخ، وذكر ضمن الوثائق الموجودة لائحة بأسماء الأسرى الـ236 الذين طالب الفدائيون بتحريرهم. تلك اللائحة لم يجدها ربيع مروة عند العرب ولم يذكر منها الإعلام العالمي سوى ثلاثة أسماء: الياباني كوزو أوكاموتو من الجيش الأحمر الياباني، والألمانيان أندرياس بادر وأولريكه ماينهوف.
تغيب الذات مجدداً، أو تُغيّب ليطغى عليها طرح واحد وأحادي لصورة الفلسطيني الذي صار «إرهابياً» بعد أحداث عام 1972، ثم تحوّلت الصورة إلى مجموعة ناس في الخيم.
في سياق تفكيكي للسرد، يجهد كل من الثلاثي لمقابلة التخييل من جهة مع التوثيق من جهة أخرى. أي الصورة التي تضمّ الوثائق التي جمعها ربيع مروة، ومقاطع الفيديو والصور. يتلاعب الثلاثي بخيوط السرد وبالوقائع. يستحضرون شخصية «أبو داوود» ويبنون عبرها سلسلة من السيناريوهات المتخيّلة اللاحقة لعملية ميونيخ، حول ما جرى حقيقةً. وكانوا يركبّون خطاباً شفوياً وينصبون بعده الخطاب المضاد: يمنطقون اللا منطق أو لا يمنطقون المنطق.
أدخلنا ربيع مروة في حديث عبثي عن الضوء «اللي بيحجب أكتر ما بيفرجي». مقترباً من الجمهور، تحدّث عن ضوء الانفجار الشبيه بضوء الفلاش، ذاكراً جرائم تحصل في وضح النهار ما يلغي إمكانية وجود الشاهد، مقترحاً علينا أن «نحمي عيوننا من الضوء لعلّنا نستطيع رؤية الجريمة بصفتها جريمة». هذا التشبيه الذي يجمع بين ضوء الانفجار والفلاش ليس بريئاً من نوعين من الجريمة كان يوحي بهما ربيع: الجريمة التي يرتكبها الإعلام، والجرائم التي ترتكبها الأنظمة في وضح النهار.
تمنّت منال خضر في جوابها على آن ماري ميفيل (التي اعتبرت أن الموت لأجل صورة هو أمرٌ مخيف، وهذا ما تراه في عمل الفدائيين في ميونيخ)، لو أنّ الصورة، بدلاً ممّا حصل في ميونيخ، تنقل إلينا الرياضية التشيكوسلوفاكية أولغا كوربيت وهي ترقص على أنغام النشيد الفلسطيني. توقف منال خضر الصورة المرفقة بالنشيد، معتبرةً نتيجة الخلط تلك «فاشستية»، فتستعيض عنها بالرقصة نفسها لأولغا على أغنية فيروز «بعدنا من يقصد الكروم» التي لا علاقة لها بفلسطين. في سياق متصل، تركز منال خضر في أكثر من طريقة على أنّ هذا العرض يتحدّث عن فلسطين، ثم يخرج نصّاً صامتاً على الشاشة حول مسرح روماني وعشرين طفلاً يردون عشرين رجلاً بالرصاص. تلك حادثة حصلت في الرابع من تموز (يوليو) الماضي في مسرح تدمر، حيث أعدمت «داعش» 25 فرداً مستعينة بالأطفال. بهذه الطريقة، نرى نقد الصورة والخطاب عبر نصب سلسلة من التناقضات.
«أنشودة الفرح» ليس عن فلسطين ولا عن سوريا. هو عن سريرٍ قرّرت لينا مجدلاني، وربيع مروة، ومنال خضر تفجيره. قد يصحو هذا الجزء من العالم، وربّما إذا تم تصوير وعرض عملية التفجير هذه على وقع أنغام «أنشودة الفرح» لبيتهوفن، تصبح الصحوة حقيقة راسخة.