كصمت شاسع في روح العاشق، هكذا، يبدو عابد عازرية بعيداً عن المسرح. بعد حفلته الأخيرة في «دار الأوبرا» في دمشق، حاولنا التسلل إلى الكواليس للحصول على موعد معه، فمُنِعنا... حاولنا مجدداً بعد الحفلة، ونجحنا في كسب جلسة معه، في بهو أحد الفنادق الدمشقية. يعود بنا عابد ستين عاماً إلى الوراء. ما يتذكره من طفولته شيء وحيد، كرهه للمدرسة، ورغبته بالهرب منها، وخصوصاً أنّ حصة الموسيقى التي كان ينتظرها، كانت تنقضي غالباً من دون مدرِّس. شُغِفَ بالموسيقى والسينما، من دون أن يعرف السبب.
كان يجمع النقود ليشاهد فيلماً يكتشف في نهايته أنه لم يفهم شيئاً. منذ طفولته الأولى في حلب، اختار الابتعاد عن التقليدية. على إحدى التلال الصغيرة خارج المدينة ذات الطابع المحافظ، كان يقضي أوقات فراغه، ويدوّن حكايته، وحيداً متأملاً. هناك مرّن نفسه على الوحدة، والتفافاً على محاولات أهله الدائمة للتدخل في أموره الشخصية التي ما زال يمنعها عن الجميع.
كانت والدته منارة تلك السنوات. أرادته أن يكون مميزاً، وكان يضحكها عندما يحوّل صحن الطعام إلى آلة، يعزف عليها بملعقته. اختارت أن يرافقها إلى الموالد النبوية وحلقات الذكر، التي كانت تواظب على زيارتها، رغم أنها مسيحية. نشأ عابد من دون أن يشعر بالفرق بين مسيحي ومسلم، وواظب على زيارة المساجد والكنائس ليستمع إلى التراتيل، جرياً على رأي بتهوفن بأنّ كل سمفونية تحوي شيئاً من التراتيل الدينية والموسيقى الروحانية. اهتمامه بالترانيم كان موسيقياً بحتاً. «منذ الرابعة عشرة، ابتعدت عن الدين، لكنني أواظب على زيارة أماكن العبادة. أركّز في معظم قراءاتي على تاريخ الأديان، من دون أن أقتنع بأحدها، ليقيني بأن الدين يجب أن يكون معاصراً، وهو ما تفتقده كل الأديان».
لم تنل الموسيقى الشرقية إعجابه، لأنه كان يرى فيها دعوةً إلى الكسل والاسترخاء، وخصوصاً أغاني أم كلثوم الطويلة. تعلّقه بالسينما جعله يكتب بعض السيناريوات، قبل الهجرة النهائية إلى فرنسا في الـ21. في عاصمة الأنوار، لم تخفه عتمة الوحدة الحالكة، ولا شبح الغربة الموجع، لأنه خبر تلك التفاصيل على تلال حلب الرملية. التحق بأحد معاهد الموسيقى، لكنّ أحد الأصدقاء أعطاه نصيحة: «قال لي: إذا كنت تملك ألفي فرنك، يمكنك السفر إلى براغ، وهناك ستتمكن من دراسة البيانو». كلّفته النصيحة غالياًً: عمل حمّال حقائب، ودهّاناً، ثم بائع أسطوانات موسيقية... حتى جمع المبلغ وسافر إلى براغ. هناك، صفعه مشهد الدبابة السوفياتية، فقرر أن بلاداً تمشي الدبابات في شوارعها، لا يمكن أن تؤويه. لم يستطع البقاء إلا شهراً، بذّر فيه كسائح كلّ ما جمع من مال، ثمّ عاد أدراجه إلى باريس.
أصدر أسطوانته الأولى «الغناء الجديد للشعراء العرب» (1970)، وضمّت مجموعة أغنيات هي قصائد لمحمود درويش، وتوفيق زياد، وسميح القاسم، وأدونيس، وخليل حاوي. حقّقت الأسطوانة نجاحاً لافتاً، لتتوالى بعدها الأسطوانات التي مزج فيها بين التخت الشرقي والغربي، من «ملحمة جلجامش» إلى «عمر الخيام»، مروراً بـ«توابل» (1989) و«نصيب» (1994) و«لازورد» (1995) و«أغاني الحب والنشوة» (2004).
حين أحيا حفلته الأولى في «البيت اللبناني» في باريس، فوجئ بمسرح مليء بالجمهور. ميزة رافقت حفلاته في أنحاء العالم. «لم أعرف شكل الصالة إلا ممتلئة. قد أكون محظوظاً من هذه الناحية». كان أوّل من دعاه إلى إقامة حفلة طلاب لبنانيون، وهو يتذكر «بيروت أيام زمان». كانت خزان ثقافة وموسيقى. «كانت عاصمة الفن العربي، ومدينة متنوعة ومدهشة... لكن للأسف، قضى السياسيون التتار على ميزاتها، وأحالوها خراباً».
مطلع السبعينيات، قرأ عازرية الحلاج، فتوقف مليّاً أمام قصيدة «يا نسيم الريح قولي للرشا». عندها، قرر «استعادة تجربة أولئك الذين رأوا الله على نحو يختلف عن العامة». هكذا لحّن القصيدة الصوفيّة، بما تكتنزه من أبعاد فلسفيّة وإنسانيّة. رغم عيشه في أوروبا، حافظ عازرية على مخزونه الشرقي، ما إن تتواصل معه حتّى تدخل دائرة من الحميمية والدفء والأمل... لكنه تخلّص أيضاً من التركة المزعجة، المثقلة بالعصبيّات الجاهليّة. أليس الرجل الجالس أمامنا فنّاناً معاصراً نهل من مخزون الحضارات والمدارس الموسيقيّة القديمة، وبقي أميناً للأرض الغنيّة الخصبة بالحضارات التي طلع منها؟ جامعاً بين الطرب والتأمّل والاختبار والتغريب، بين الطرب والفلامنكو والموسيقى السومرية والبابليّة، كان أوّل من غنّى الشعر العربي الحديث، وشعراء المقاومة، قبل أن يعبر إلى المتصوّفة والأندلس، مروراً بالمتنبي والمعرّي وطرفة بن العبد، وصولاً إلى خمريّات الخيّام و... إنجيل يوحنّا.
احتلّ الحب هامشاً واسعاً في إبداعه. العشق الإلهي، والعشق الأرضي والإنساني أيضاً. ملذّات الروح كما أنشدها ابن عربي والحلاج، ومسرّات الحياة الدنيا كما غنّاها عمر الخيّام. تزوّج أكثر من مرّة، وأنجب ولدين، لكنّه يحرص على إبقاء العائلة بعيداً عن الحيّز العام، «لأن هذه حياتي والباقي أسرار». لا ينقطع صاحب «لازورد» عن قراءة الشعر والأساطير. بعد حفلته الناجحة في «دار الأوبرا» السوريّة، يستعدّ لإحياء حفلة خاصة في مناسبة عيد ميلاد صديقه الشاعر أدونيس. ويستعدّ كذلك لإصدار نسخة جديدة من «ملحمة جلجامش» في 31 آذار (مارس) الحالي.
كلّما سنحت له الظروف، يعود عابد إلى هوايته الأولى، في اقتناء الأسطوانات واكتشاف الأقاليم البعيدة. يجالس الأصدقاء القدامى الذين نسج معهم ذكرياته على مرّ السنوات، من موسيقيين وشعراء وفلاسفة. هو يحملهم معه أينما حلّ، بل هو مسكون بأطيافهم. مجالسته تضعك في مناخات روحانيّة، وتدخلك دائرة الحكمة والتأمّل... هذا الرجل يشبه أغنياته إلى حدّ بعيد. كاهن أسطوري، يبحر عكس الزمن الاستهلاكي. لقد مضى اللقاء مع الشاعر المعاصر والموسيقي المغاير، بلمح البصر. يرافقنا إلى الباب وهو يتحدّث عن حلم يراوده: «جمع لوحات البعل، آلاف اللوحات المرتبطة بهيكل إله الخصب، لإنجاز مسرحية غنائية». ما زالت في جعبة عازريّة مشاريع مدهشة، وأحلام كثيرة...



5 تواريخ





1945
الولادة في حلب

1967
هاجر إلى فرنسا، وبعد ثلاث سنوات سيصدر أسطوانته الأولى التي قدّم فيها الشعر العربي الحديث

1977
أصدر واحدة من أشهر أسطوانته
«ملحمة جلجامش»

1999
أسطوانته الشهيرة
«عمر الخيام»

2011
نسخة جديدة من أسطوانة «ملحمة جلجامش».
وغناء قصائد جديدة لأدونيس في ثمانينه