البحث عن العسل قاتل مع سميح كابلانوغلو. سرعان ما سيستحيل مذاقه مرارة ويُتماً. بشريط «عسل» (الدب الذهبي في «مهرجان برلين» عام 2010)، يكون السينمائي التركي قد استكمل ثلاثية يوسف التي بدأها مع «بيض»، حيث بدت حياة الشاعر يوسف مكتملة، لكنها بهشاشة البيض، وخصوصاً بعد وفاة والدته. وكنا قد تعقبنا تلمسه لطريق الشعر أثناء مراهقته في «حليب» (2008)، ونشره لقصيدته الأولى، ثم يعود أوغلو طفلاً في آخر الثلاثية مع «عسل».يفتتح هذا الشريط مساء غد تظاهرة «متروبوليس» الخاصة بالسينما التركية الجديدة. اللقطة الأولى من «عسل» طويلة جداً، ونحن نرى يعقوب بين الأشجار، يقترب برفقة حصانه من الكاميرا. تنقطع اللقطة بعد تسلق يعقوب لشجرة عالية، سرعان ما يبدأ الغصن الذي علق عليه الحبل بالتكسر. نتركه معلقاً بين الأرض والسماء، في انتظار ما سيقرّره الغصن. ننتقل إلى يوسف ابن يعقوب، وهو يروي لوالده حلماً رآه، بينما يسأله والده ألا يرويه بصوت عال، بل يهمسه في أذنه، ويقول له الأب بعدها ألا يخبر أحداً عنه. عالم يوسف يتمحور حول أبيه. يمضي إلى المدرسة وهو يلاحق النسر الذي يطلقه والده ليرافقه. يوسف صامت على الدوام، لا يتكلّم إلا مع والده، وهمساً. والمدرسة هي المكان الوحيد الذي يجعله بعيداً عن أبيه. هناك يواصل صمته أيضاً، وحين يحاول القراءة، فإنّ المعلّم يختار له مقطعاً غير ذاك الذي درّبه والده على قراءته، فتخرج كلماته متلعثمة. الشيء الوحيد الذي يردده بعد أن يحفظه هو قصيدة يسمع فتاة تكبره في العمر ترددها في المدرسة.
عوالم مسكونة بالعسل والأشجار والطيور، ووحدة يوسف محتشدة بالمعاني، يتخلى عنها فقط حين يكون مع أبيه. يصنع له هذا الأخير مركباً شراعياً خشبياً قبل سفره، هو الباحث عن العسل في مناطق أخرى. سنكتشف لاحقاً مصير الأب المعلّق على غصن الشجرة، وينتهي به الفيلم ومعه حلم يوسف نفسه. وباستعادة الجزء الأول والثاني من الثلاثية، نكون قد عرفنا كيف أمسى يوسف يتيم الأب، لكن بأثر رجعي، بعدما تعرفنا إليه في «حليب» مؤرقاً، يكاد يقتله اكتشافه حب أمه لرجل آخر. وهي الأم نفسها التي يمضي في «بيض» مسافات طويلة ليحقق وصيتها في تقديم أضحية في مزار بعيد.
فيلم «عسل» قصيدة سينمائية رعوية، في بناء شعري يغري باستعادته لقطة لقطة. كتب سميح كابلانوغلو قصيدته تلك تحت تأثير جماليات عوالم متعددة، تمتدّ لتشمل أم يوسف وجدته، وسماعه قصة الإسراء والمعراج، وشربه الحليب فقط إلا لإسعاد أمه الغارقة في حزنها بانتظاراً زوجها الغائب، وغيرها من بانوراما جمالية لحياة طفل بعينين مفتوحتين على اتساعهما، جسّدهما الطفل بورا أتلاس بأداء رائع.

«عسل»: 8:00 مساء غد الثلاثاء ــــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (بيروت)