تعليقاً على مقال "ما لم يره قاسم حدّاد وأمين صالح" الذي نشر في عدد الثلاثاء 8 آذار 2011 قحطان راشد | خاص بالموقع - مر ما يزيد على الأسبوعين منذ إنطلاق ثورة 14 فبراير فى البحرين، ولا تزال وجهة التحولات غير واضحة بالنسبة لبعض المثقفين، وتتعالى الأصوات مُحذرة من سيناريو الطائفية فى محاولة لإجهاض محاولات التغيير البنيوى للنظام القائم وحصر التغيير بالإصلاح الدستورى أو الميثاقى.

وبقدر تخوف البعض من الدور المتصاعد للحركة الإسلامية الشيعية فإن أخرين يرون تصاعد مطالبات الحركة الإسلامية السنية بتصاعد مطالب الشيخ عبداللطيف المحمود، والجميع ينتقد الوضع الراهن دونما إتفاق جماعى على المخرج المطلوب أو على خارطة الطريق للتغيير القادم، إلا أن البارز للعيان التأييد الشعبى الكبير لمطالب المعارضة السياسية المتحصنة فى خندق 14 فبراير، والتى تتمحور شعاراتها وأفاقها السياسية حول المملكة الدستورية الفعلية، وهى تضم اليساريين والقوميين والوطنيين والإسلاميين.
هذه الحالة تبدو طبيعية إذا أخذنا فى الاعتبار تسارع الأحداث فى هذا المدى الزمنى القصير، وهو الذى أربك حسابات جميع القوى السياسية، والجمعيات السياسية العلنية بالذات، والتى طالما نادت بالإصلاح السياسى غير الراديكالى، فما بالك بالمثقفين، ونعتقد بأن الحركة الشعبية الممثلة بثورة 14 فبراير لازالت هى صاحبة زمام المبادرة، وهى الفاعل الرئيسى فى المشهد والذى يتحدد على وقع تحركاته مواقف وردود أفعال جميع الأطراف الأخرى، داخل وخارج دوار اللؤلؤة.
ويجب الإعتراف بأن بعض المثقفين البارزين أمثال قاسم حداد وأمين صالح لا زالا حذرين وغير مطمئنين "لمسار الثورة" وهذا ما تضمنته رسالتهما المنشورة بتاريخ 2 مارس فى صحيفة الوسط البحرينية، فقد قالا فى بيانهما أنهما مع القضايا المطلبية للشعب، وأضافا "..لكننا لا نتفق مع بعض الشعارات المرفوعة في الشارع، تلك الشعارات العنيفة التي تدعو إلى إسقاط النظام الآن وفوراً، في وقت نرى إمكانية تحقيق مكاسب معينة عبر حوار وطني شفاف وديمقراطي.."!
وما سيأتى تحليل لوقائع الثورة التى تبدو غائبة عن أذهان بعض المثقفين.
لقد إتخذت حركة 14 فبراير منحى جديد يختلف نوعياً عن شكل الاحتجاج والتظاهرات والإنتفاضات التى سادت فترة من سنوات التسعينيات، وما قبلها منذ إصدار دستور 1973، وأيضا ما تميزت به فترة ما قبل الإستقلال السياسى، فنحن نعيش ثورة بحرينية سلمية الطابع والأكثر جذرية فى تاريخنا، تؤكد عليها وتدعمها ظروف موضوعية عربية غير مسبوقة بدأت بتونس ولن تنتهى بالطبع عند مصر أرض الكنانة، وتستمر المظاهرات الشعبية الحاشدة وتتسع بشكل غير مسبوق وتتركز قائمة المطالب على التمحور حول مطالب سياسية يمتد أفقها إلى ماهو أبعد من التغيير الهيكلى فى السلطة، وهو تصفية ميراث الإستبداد الملازم لدولة ما بعد الإستعمار الإنجليزى والذى إنتهى إلى شكل من أشكال العشائرية المُحدثة، بدمج التسلط العائلى مع منطق السوق الريعى، النفطى وغير النفطى، الذى سخر كل الأليات المتاحة لفرض وإستمرار القهر السياسى والإقتصادى والإجتماعى على الشعب البحرينى، وعلى مكونيه الأساسيين من الطائفتين السنية والشيعية، إستنادا إلى جهاز أمنى مُستورد.
وأل خليفة ونظامهم الإماراتى أو الملكى رافض دوما للديمقراطية، وهم على رأس الكتلة الحاكمة التى تشكلت على الضد من منطق الدولة المدنى وإلتحمت بالبيروقراطية العوائلية، وأدمجت شرائح من كبار الرأسماليين الطفيليين وملاك القطاعات الخدماتية وملاك الأراضى التى يجمعها الولاء للعشائريين المُحدثين، كما أوضحت سنوات الأربعون عاما من حكم وتسلط رئيس الوزراء خليفة بن سلمان الذى حافظ على الاستبداد المتوارث ماقبل الإستقلال منذ بداية تسلطه المالى والإقتصادى بدءا من عام 1957 والذى أبقى على عقلية الغزاة، حتى بعد الإستقلال السياسى.
وكل ذلك أضحى فى مرمى نيران إنتفاضة 14 فبراير والشعب البحرينى الثائر، ولن يسلم منها حتى مصالح الشيعة الموالين لإستمرار النهج الإستبدادى، وشعار إسقاط النظام يجب ألا يخيف إلا سدنة النظام الفاسد أنفسهم.
إننا أمام فرز إجتماعى وسياسى مميز، فطبيعة التكوين الاجتماعى للثورة شامل، على الرغم من أكثرية المسحوقين فيها، وتمايز الأفق السياسى للجمعيات والقوى السياسية المختلفة، هذا التمايز طبيعى، إذ كان من المستحيل الاحتفاظ بهذا الزخم الشعبى العريض الضارب بجذوره عمودياً فى مختلف الفئات الإجتماعية فى البحرين والممتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والغالبية فى البحرين تجتمع على ضرورة مواصلة النضال حتى يتم تصفية نظام الإستبداد وتحقيق المملكة الدستورية، وبعيدا عن الفاسدين والمُفسدين.
واليوم، إن المطلوب من القوى الوطنية والديمقراطية، ومن ضمنهم المثقفين، هو الإنخراط فى تنظيم وتعبئة هذه الثورة ورفدها بالفعاليات لتشكيل قوة ضغط فعلية على الحكومة والأسرة الحاكمة وانتزاع الحقوق السياسية والمدنية خارج منطق الرضوخ للقيم العشائرية البائدة، وعلى المثقفين إدراك أن مسار الأحداث قد تجاوز إطلاق مبادرات الإصلاح الدستورى، وما سيتم انتزاعه الآن على الأرض هو الأهم والأبقى، ولم تعد هناك خطوط حمراء، فالفرز فى هذه الثورة لا ترتسم حول مسألة "مدنية الدولة"، المفقودة على أرض الواقع، ومن ثم فخطر التطرف الشيعى يبدو مبالغاً في تقديره بشده، فلا ولاية الفقيه مثلا كانت على بساط البحث، ولا محاولات رفع الشعارات الطائفية برزت على السطح، ومن غير المتوقع الحديث عن محاصصة طائفية.
ومحاولة إضفاء طابع طائفى على هذه الانتفاضة تبدو صعبة حتى الأن، علاوة على أن مروجيها بالأساس فى جانب خندق السلطة، وبالتالى فالإنجرار لمعركة ضد الشيعة تصدر فيها البيانات ويسيل فيها الحبر دفاعاً عن "مدنية الدولة" المفقودة، هو بمثابة إهدار للوقت وضحك على الذقون، وليس هناك تطرف غير تطرف الدولة الإستبدادية.
ولنذكر فقد تنفع الذكرى .. يزخر سجل التاريخ بأولئك المثقفين الذين قضوا عقودا من أعمارهم فى الدعوة أدبا للتمرد على الطغيان، وتغنوا شعرا بالثورة على المُستبدين، وبعضهم قضى سنينا من عمره فى السجون لمجرد المطالبة بالديمقراطية وحرية الرأى، ووقفوا إلى جانب الثوار عبر البحار والمحيطات، لكنهم خذلوا أبناء جلدتهم وشعبهم حينما دقت أجراس الثورة أبواب أوطانهم، فخذلوها أيما خذلان، متذرعين بما هو باطل وبما هو "حق يراد به باطل" لمجرد أنهم غير مستعدين "الأن" للتغيير الجذرى ويريدون توقيت الثورة طبقا لمصالحهم وأهوائهم، وليس لتغيير الواقع البائس الذى عكس بؤسه السياسى والإقتصادى والإجتماعى والثقافى على أحوال العامة من الناس.
ولم تكن إدعاءاتهم حول الحياد، ورفض الأدلجة وتسييس المواقف، إلا تغطية على مخططات الإستبداد والمُستبدين، ولا نظن أنهما تناسيا إستمرار سياسة "السيف والمنسف"، ليس فى البحرين فقط وإنما فى عموم الخليج العربى.
لقد جاء بيان الأديبان قاسم حداد وأمين صالح ليعكس حالة تشوش لدى بعض المثقفين، وهما كغيرهما يقلقهما "..التوظيف الديني، المتطرف والمتعصب، الذي يجري التسابق به في مجمل المشهد، فنحن لا نرى في ذلك وسيلة أو حلاً أو أفقاً لمشكلات حياتنا.."! كما ورد فى البيان المذكور أعلاه.
ونحن بدورنا نتساءل: ألا يقلقكما إستمرار تسلط الدولة الإستبدادية؟
وكيف تهاجمان الثورة وتغفلان شعاراتها؟ وأين هى الشعارات الدينية؟
ونتمنى ألا يكون قصدكما الوعى الدينى الثورى لدى أبناء شعبنا ضد الطغاة!
لقد تضمن بيان الأديبان إدانة للعنف ولإسالة الدماء، لكنهما لم يدينان الدولة المُستبدة والنظام الجائر الذى مارس العنف بأبشع أنواعه ضد المتظاهرين المُسالمين!
كما أن بيانهما أدان القتل، ولكنهما لم يدينان القاتل!
ويُدينان سفك الدماء، لكنهما لا يُدينان من سفك الدماء!
ويدعوان لحوار شفاف وديمقراطى، دونما إدانة للنظام الذى رفض ذلك عقود طويلة من الزمن!
ونتمنى من أدباء البحرين أمثال قاسم حداد وأمين صالح أن يراجعا مواقفهما ويدققا أكثر فى مضامين الثورة، وأن يأتيا إلى دوار اللؤلؤة ويحاورا الثوار فى الميدان علنا وبالإتصال مع القوى السياسية، وليطرحا الشعارات والأفكار التى يرونها تخدم التغيير الحقيقى فى البحرين .. وليتحاورا مع المخلصين .. فهذا وقت وزمن الكلمة الحرة الحقة.
نقول ذلك حتى لا يسقطا معا، كما سقط العديد من دعاة الحداثة الرجعية منذ الإختبار الأول، وعلى رأسهم جابر عصفور فى مصر .. الذى خذل إنطلاقة الثورة المصرية .. ثم حاول يائسا تدارك تخاذله!
ونقولها للتاريخ كما قالها الكثيرين من قبلنا .. إن الناس يمكن أن تغفر .. لكنها لا يمكن أن تنسى.
إن الثورة فى البحرين ليست ثورة مثقفين وهى بالتأكيد ليست ثورة خالصة للطبقة الوسطى، ويبدو أن ذلك يقلق البعض، ويجب أن يدرك المثقفين أن الثورة فى البحرين هى ثورة شعب خضع عقود مديدة للإستبداد وللقمع بكافة أشكاله ويخوض غمار هذه الثورة المسحوقين فى ألية النظام السائد، وهذه الفئات الإجتماعية وإن طغى عليها الطابع الدينى بسبب من كونهم نتاج لواقع بائس مديد، فإن هذه الجماهير لم ترفع الشعارات الدينية، وإذا كانت الشعارات السياسية المطروحة فى دوار اللؤلؤة (ميدان الشهداء) أعلى من السقف السياسى لبعض المثقفين فإنها فى حقيقة مضامينها ليست بأعلى من السقف السياسى الذى تنادى به القوى السياسية وعلى رأسها الجمعيات السياسية السبع العلنية، والتى عانت كل العناء من مرارة "السنوات العجاف" للإصلاح الملكى الميثاقى.
إن زمن الثورة من المفترض أن يكون زمن المثقفين الوطنيين، وزمن المبدعين الحقيقيين، وأن يمارسوا دورهم المنشود فى رفد الثورة وإعانة الثوار، وأن يكونوا أصحاب موقف عند الشدة .. وألا يكونوا كمن قال عنهم الشاعر أحمد فؤاد نجم "محفلط مزفلط كتير الكلام عديم الممارسة عدو الزحام"!