أمستردام | بعد حوالى ربع قرن على عرضها في هولندا بمبادرة من فرقة «آبل»، ما هي الإضافة التي حقّقتها «فرقة المسرح الوطني الهولندي» في تقديم مسرحية «فاوست»؟ وما سرّ الاهتمام الكبير الذي جعل البطاقات تنفد منذ اليوم الأوّل؟
المسرحية الذي تستمرّ عروضها حتى 24 نيسان (أبريل) في أفخم مسارح أمستردام ولاهاي وروتردام، تمثّل هذه الأيام الحدث الأول على الساحة الثقافية في هولندا. مخرجها جوهان دوسبورخ سعى إلى التركيز على المشترك بين فاوست والإنسان المعاصر من هموم وهواجس. يقول: «مسرحية «فاوست» تتناول الصراع من أجل الأفضل، تتمحور حول سؤال: هل أنت راض عن نفسك؟ وهي أيضاً عن الصراع الذي نخوضه ضد الشيطان فينا. وهو صراع مظلم تارة، ومضحك طوراً».
في هذه القراءة لرائعة غوته، يقف فاوست بعيداً عن التساؤلات المصيرية حول المعرفة وإخفاقها في الكشف عن الجوهري في الوجود الإنساني. لا يتعلّق الأمر بتحقيق الذات ولا بالسعي إلى الكمال، بقدر ما يتعلّق بالسعي إلى بلوغ أعلى مستويات الشهوة. من هذا المنظور، نقرأ الارتباك الواضح في سلوك بطلنا الذي يعكس جشعه وشهوته. لا المعرفة ولا العقد الذي وقّعه فاوست مع (الشيطان) مفيستو، سيخلّصانه من القلق، علماً بأنّ الممثل الهولندي جاب سبيجكرز كان بارعاً في تجسيد شخصية قلقة تحاول الاحتفظ بمقدار من القيم، فيما تسعى إلى الانخراط في الأفعال الشريرة... فالشر لا ضمير له حسب مفيستو. كثيرون هم النقاد الذين رأوا أنّ غوته عكس في رائعته جانباً من المآسي الضرورية لدخول عصر الحداثة. وبذلك، برروا الظلم الذي تعرضت له البشرية، باعتباره ضرورياً للانتقال الى عصر جديد. وهذا الرأي النقدي في «فاوست» يقطع الطريق أمام أي حداثة إنسانية. لكن النسخة الحاليّة لم تتوقّف عند هذه النقطة، بل ركّزت على العنصر الفردي لشخصية فاوست، بعيداً عن التأويلات التي تقرأ غوته في ضوء عصرَي التنوير، والحداثة. هذا الخيار الإخراجي جنّب العرض تقديم مرافعة عن المشروع الحداثي.



قراءة معاصرة

بعد 26 عاماً على آخر عرض شاهده الهولنديون لمسرحية «فاوست» من تقديم فرقة Appeltheater، ارتأت «فرقة المسرح الوطني الهولندي» اعتماد ترجمة خاصة بالعمل، الى اللغة الهولندية. في النسخة الجديدة، لم تأت الشخصيات كلاسيكية في لغتها ولا في الأشياء التي تحملها.
لم يعد فاوست أسير الصورة النمطيّة الرائجة التي تقدّمه بالضرورة على فرسه، بل بات هنا شخصية عصرية، ما سهّل عملية ارتباطه بالجمهور. وفي هذه النقطة تحديداً، يرى المخرج جوهان دوسبورخ أنّ هناك تفاصيل عدّة ميّزت النسخة الجديدة من «فاوست»، مقارنة بالقراءات الإخراجيّة المختلفة لهذا النصّ الذي يعدّ أحد أصعب النصوص تجسيداً في تاريخ المسرح الحديث نظراً إلى التحديات الكثيرة التي يفرضها.

الترجمة والديكور

تمثّل الترجمة العصرية أحد عوامل نجاح النسخة الهولندية الجديدة من «فاوست». «في هذه النسخة، نحن إزاء فاوست عصري بلغة عصرية، يقول مصمم الديكور توم سخينك. وقد جاء ديكور العرض مختلفاً. المكان على هيئة ممرّ طويل يتوزع جزء من الجمهور على يمينه ويساره، فيما هناك صناديق حديدية مزوّدة بمرايا متحركة تعين مفيستو في ظهوره المباغت. وفي الخلفية، نرى منصة خشبية من ثلاث طبقات تسع لأكثر من 100 متفرج مزودة بشاشات تقدم للجمهور أكثر من زاوية للعرض. وقد كان المشهد الذي يتعقب فيه مفيستو العاشقة مارغريت في أشد لحظاتها تعاسة، من أروع مشاهد المسرحية بالنسبة إلى الجمهور في خلفية الصالة. إذ تسنّى له مشاهدة الإيقاع الذي يوحّد الخطوات البطيئة لمفيستو ومارغريت من زاوية أمامية عبر الشاشات ومن زاوية خلفية عبر الرؤية المباشرة.