بالكلمات ذاتها التي كتب بها قصائده، أنجز عيسى مخلوف نصوص كتابه «عين السراب» الذي صدر سنة 2000، وهو ما فعله لاحقاً في كتابين آخرين هما «رسالة إلى الأختين» (2004)، و«مدينة في السماء» (2012). الفارق أن هذه الكلمات أخذت راحتها، قليلاً أو كثيراً، من ضغط الشعر والكُلفة المبذولة في استدراج الاستعارات واصطيادها.
الكثافة المطلوبة في القصيدة تمددت في نصوص هذه الكتب التي ظلت على صلة جنينيّة بالشعر، لكنها حظيت بفرصة أن تكون نثرية أكثر، وأن تكون قادرة على الوصول إلى الاستعارة أو الصورة أو الخلاصة المُبهرة بسلوك دروبٍ أطول وأكثر تعرجاً، وأن تستخدم في سبيل ذلك أنواعاً من السرد والتداعي والاستطراد والتأمل.
نستعيد مناخات هذه الكتابة مع صدور الترجمة الإنكليزية لكتابه «عين السراب» (The Post - Apollo Press) بعنوان «سرابات» وهو العنوان الذي صدرت به الترجمتان الفرنسية (2004) والإسبانية (2007).
الكتاب لا يخسر كثيراً وهو
ينتقل من ضفة الضاد
إلى ضفة لغة أخرى
هي مناخاتٌ سردية صارت ممارسةً أساسية في تجربة الشاعر والكاتب اللبناني الذي تداخلت في مسيرته كتابات عن الفن والصورة، وأشغال في الترجمة والحوارات الثقافية، حيث أمكن للكتابة أن تُشرف على نبرات وحساسيات أخرى وتختلط بها. نُعيد قراءات نصوص من الكتاب، ونتخيل انتقال مكوناته وصوره إلى لغة أخرى وقراء آخرين. الكتابة سفرٌ والترجمة جزء من رحلة تحضر في افتتاحية الكتاب التي يقول فيها مخلوف: «نسافر حتى نبتعد عن المكان الذي أنجبَنَا ونرى الجهة الأخرى من الشروق». نقرأ مجدداً تلك السرديات عن موت الأخ، وعن رحلة إلى الأهرام المصرية، وعن صرخة الأم في وداعه الأول، وعن كلماته على لسان الحلاج وسمعان العمودي والقديسة تيريزا، وعن «القتيل الذي يحلم» بصور الحرب الأهلية في طفولته الجبلية. تتراءى لنا نظرة الشاعر نفسه، وزاوية النظر إلى العالم والأشياء والذاكرة والألم واللوحة والغياب والحرب والموت... ننتبه إلى الخُلاصات والتأملات الشخصية التي تضع شيئاً من الشعر بين طيّات السرد أو تجعل السرد نفسه عائماً على روحية الشعر الذي يتقدم بالنثر وتعبيرات النثر. نقرأ بالانكليزية ما قرأناه يوماً بالعربية ونحس أن الكتاب لا يخسر كثيراً وهو ينتقل من ضفة الضاد إلى ضفة لغة أخرى. تكاد تختفي تلك «الخيانة» الملازمة أكثر لترجمة الشعر. النثر الشعري هنا ينتقل بثقة أكبر وبخسارات شبه معدومة.