يمضي المخرج اللبناني خليل زعرور من خلال فيلمه «ملاكي»، في مقاربته الوثائقية لمخطوفي الحرب الأهلية اللبنانية. يصوّر انطلاقاً من بؤرة مكانية، تلتقي فيها المصائر تحت مظلة الانتظار، إذ تحوم الكاميرا حول خيمة الاعتصام التي نصبتها أمهات المفقودين والمخطوفين في الحرب، أمام مبنى الإسكوا في وسط بيروت. البؤرة المكانية ستكون معبراً إلى سرد خاص للأمهات ولانتظاراتهن. يقوم زعرور بذلك مع فعل استعادي لحكايا المخطوفين ومصائرهم التي تتخطّى الموت إلى حالة غائمة بين الموت والحياة، بين اليأس والأمل... ويبقى الانتظار فعل الأمهات الأوحد.فيلم «ملاكي» الذي عرض في «مهرجان دبي السينمائي» الأخير، وكان ليجد مكانه الطبيعي في Dox Box، يجد جمالياته من خلال مفردة بصرية ترتكز على روايات الأمهات. يؤسس المخرج مواقع تصوير على طريقة الصيني جيا زانغ ــ كي Jia zhang ke وتحويلها إلى منصّة لما ستحمله شهادات الأمّهات. نجد الأم التي ذهبت إلى المقابر الجماعية للبحث عن ابنيها المفقودين، تحفر الرمل على شاطئ البحر. نسمع روايتها وهي جالسة بين أسلاك شائكة، فيما يستعين المخرج ببدلة عرس، لكون أحدهما كان على مشارف الزواج. ما زالت هذه الأم تنتظر ولديها منذ 25 عاماً. أمّا أم ستافرو، فتقبّل الوسائد في غرفة ابنها، وتنبش المكان بحثاً عن رائحته. يصوّر الفيلم منامها الأثير: ابنها عائد وقد أعدّت له اللوبياء بالزيت التي يحب. وبالانتقال إلى قصة المفقود طوني، نقع على زوجته جالسة وقد أحاطت بها الثلوج، وخرجت منها في الوقت عينه ورود حمراء، تحيط بها من كل جانب.
حين يستعيد «ملاكي» الخطف، وكيفية حصوله، لا يتردّد في تقديم لقطة طويلة من دون قطع، تمتدّ لأكثر من بضع دقائق. يمضي بالكاميرا من الشارع، وصولاً إلى بناء، يصعد الدرج ومنه يدخل البيت، ويتجول في الغرف وبين الصور الفوتوغرافية، وصولاً إلى الرسالة الصوتية المتروكة على الهاتف.
هذا التنويع في السرد يأتي متسقاً ضمن بناء فيلمي كامل ومتناغم. بل إنه بمثابة وثيقة لا تخلو من الدرامية، ما يجعل التوثيق يسير جنباً إلى جنب مع جرعات عاطفية كبيرة. طابع يجعل الفيلم رافعةً جماليةً وإنسانية لمعاناة أكثر من 18 ألف مفقود، كما يقول لنا الشريط، ومعاناة من يعيشون تحت تأثير هذه المأساة، في ظلها وتحت وطأتها، وهم لا يملكون إلّا الانتظار. ينتهي عمل خليل زعرور من حيث بدأ، على أوديت، ومن خيمة الاعتصام. هناك من يخبرنا بأن أوديت التي لم تنقطع يوماً عن الحضور إلى هذه الخيمة، لم تأت اليوم لعذر شرعيّ: لقد ماتت الأم في انتظار ولديها. رحلت من دون أن تعرف إن كانا لا يزالان، كما كانت تأمل، على قيد الحياة.