من الطبيعي في أجواء القحط والبؤس السينمائي أن تكون إقامة تظاهرة سينمائية حرة كـ«دوكس بوكس» حدثاً مهمّاً للغاية... فكيف بالأحرى أنّها تظاهرة خاصة بالسينما الوثائقية!إنّ ما أنجزه هؤلاء الشباب الذين يقيمون هذه التظاهرة بجهودهم عاماً بعد عام، لتكريس وتأسيس مساحة خصبة وواعدة في الساحة السينمائية السورية البائسة، يستحق الدعم والتقدير من السينمائيين السوريين والعرب، ومن محبّي السينما، والوقوف إلى جانبهم لدفع هذه التظاهرة كي تحقق أهدافها، وتستمر في إنارة ضوء في عتمة الوضع السينمائي في سوريا.
فالسينما الوثائقية في بلدنا نادرة، ومستهدفة هي وسينمائيّوها. وقد استطاعت هذه التظاهرة أن تستقطب ـــــ خلال الدورات التي أقامتها في السابق ـــــ جمهوراً جيداً، تابعها باهتمام في أيامها القليلة. لكن ما يُخشى منه على هذه التظاهرة هو الدور الذي تحاول «المؤسسة العامة للسينما» أن تمارسه للتأثير عليها، وتحجيم فعالياتها، واقتناص حريتها واستقلاليتها. فالسينما الوثائقية لا تشاهد ولا تصنع إلا في جو ديموقراطي وحر ومستقل.
وقد سرّنا أن تكرّس التظاهرة تحية لأميرلاي، ولو أنّنا كنا نتمنّى أن تحمل الدورة كلّها اسم هذا الفنّان الذي فُجعت برحيله السينما الوثائقيّة في سوريا والعالم العربي. كذلك فإننا نأمل في المستقبل عرض كل أفلامه الممنوعة. عسى الدورة المقبلة من «دوكس بوكس» تعمل على تقديم صورة كاملة لهذه القامة النادرة، وتبدد المحاولات المبتذلة للانتقاص من قيمة ما حققه عمر أميرلاي للسينما السورية والسينما الوثائقية في العالم، من خلال تكريس فعالياتها وندواتها والحوارات التي ستجري خلالها للكشف عن الأهمية السينمائية الكبيرة لسينما زميلنا الراحل.
إني أدرك وأقدّر أنّ إنجازات عمر أميرلاي تستحق الكثير من القراءات والندوات والحوارات التي لا تكفيها تظاهرة واحدة، مثل «أيام سينما الواقع» في سوريا. لكنّ التراب الطري الذي أراه لم يجف بعد، يدفعني إلى الإحساس بإلحاح هذه الضرورات وراهنيتها.
لقد آن الأوان لأن ندرك جميعنا أنّ فرص مشاهدة الأفلام في أيامنا لم تعد هي الأهمية الكبيرة التي علينا أن نكرّس لها جهودنا وأيامنا في تظاهرة كهذه. فإقامة العروض العامة مع الجمهور، بما يمكن أن تثيره من حوارات ضيقة أو واسعة، هي التي تعطي لهذه التظاهرات أهميتها. لم تعد فكرة إتاحة الفرصة للجمهور لمشاهدة أفلام لا يتاح له أن يشاهدها عادةً، هي التي ترجح كفة ميزان هذه التظاهرات، وخصوصاً على صعيد السينما الوثائقية الحرة التي يحققها السينمائيون الشباب بإمكانياتهم المستقلة.
التظاهرة الوثائقية تكمن قيمتها وأهميتها في ما تطرحه من قضايا، وما تثيره من تساؤلات وحوارات. والمؤسسة العامة للسينما تسعى، من خلال تسللها إلى «أيام سينما الواقع»، إلى حجب كل ما يمكن أن تثيره المناسبة من حوارات سينمائية وسياسية وفنية، علماً بأن قيمة هذه التظاهرة وأهميتها في أن تكون وفية لجوهرها، وأن تتمايز بنحو قاطع عن التظاهرات السينمائية الدعائية والاستعراضية التي تقيمها المؤسسة العامة للسينما.
وأخيراً قد تكون هناك أهميّة ما لورش العمل التي تقام على هامش «أيام سينما الواقع»، إذ يطرح بعض ضيوفها تجربتهم الخاصة في تحقيق الفيلم الوثائقي. لكنّي متأكد من خلال تجاربنا السابقة، في أزمان أخرى، أنّ السينما ـــــ وخصوصاً السينما الوثائقية ـــــ تبحث أوّلاً في مثل هذه المناسبات عن فضاء واسع لإحياء نقاش حر وحوار عميق. وهذا من شأنه أن يضع «دوكس بوكس» أمام جوهر هدفها الأساسي الذي حرمت منه السينما في بلدنا منذ زمن. وقد استبيح صانعوها ـــــ بسبب غياب هذا الحوار ـــــ في حياتهم وفي موتهم أيضاً.

* سينمائي سوري