لا أعرف أي ضربة هي التي تئنّ في أضلعي اليوم، ضربات أعقاب البنادق أم الركل بالأقدام والأيدي؟ ولا أدري أي مصير كنت سألاقيه لولا تدخلات واتصالات أنقذتني وزملائي ممّا كنّا فيه: معتقل معصوب الأعين لعشر ساعات في غرفة نتنة! في يوم عراقيّ خالص (جمعة الغضب)، كان نزول شباب العراق الى ساحة التحرير مختلفاً. دافعهم إنقاذ البلاد من المفسدين الذين خرّبوا ما بقي منها، تارةً بحكومات عرجاء ترضي الطوائف والعشائر والمافيات الجديدة، وطوراً بحرب أهليّة قتلت الآلاف، وثالثة بإصرار فجّ على أخذ حياة العراقيّين الى كهوف الظلاميّة والتشدّد. العراقيّ لم يعد يقنع بصنائع الدبابات الأميركيّة، حين أسقطت مستبداً مثل صدّام، وأتت بطبقة لم تأخذ العبر ممّا حلّ بسابقها.
خرج الشباب في «جمعة الغضب»، وكانت شعاراتهم تعبّر عن طريقة احتجاج أخرى لا يقف خلفها حزب يريد النيل من غريمه أو مسؤول يريد تصفية حساب آنيّة مع منافس له. إلا أنّ الشعار الذي كان يختصر كل تلك المعاناة التي تحمـّلتها مع مَن عاش عراق ما بعد صدّام، هو شعار رفعه الشباب وسط ساحة التحرير: «الله يطيح حظج يا أميركا». نعم «الله يطيح حظّك». شباب العراق أرادوا توبيخ أميركا بلهجتهم. بعدما سمحت لصدّام، ولغيره من الديكتاتوريين، أن يحكم لعقود، أسقطته وسلّمت العراق لطبقة فاسدة. كيف لا وهي التي لا ترى في العراق سوى مشروع غنائم غير قابل للنضوب.
مرّت التظاهرة وكان كلّ شيء حضاريّاً، رغم تحذيرات حكوميّة من «البعث» و«القاعدة»، غير أنّ أياً منهما لم يكن موجوداً. جماعات الشباب هي الحاضرة: «بغداد لن تكون قندهار»، و«الثورة الزرقاء»، و«جياع» و«نريد أن نعرف»... توحّدوا تحت مسمّى «شباب شباط»، ونظّموا تحرّكاتهم بنحو مبهر داخل الساحة. غير أنّ الرصاص الحيّ فرّق جموعهم لتتلقّف الأجهزة الأمنيّة الفارّين صوب الشوارع والأزقـّة الفرعيّة.
قبل ذلك، قرّرنا تناول الغداء والعودة الى «التحرير»، ولم نسمع بعد بخراطيم المياه، والجرحى، وسيّارات الإسعاف التي تركتهم مرميين على الأرض. نعم، سالت الدماء في ساحة التحرير وسط تعتيم إعلاميّ مقصود. بعد كلّ هذه الإجراءات، لم نتوقع أن تهاجمنا قوّة عسكريّة كبيرة نحن الأربعة: هادي المهدي، وعلي السومري، وعلي عبد السادة، وكاتب هذه السطور. بدأ الهجوم علينا بأعقاب البنادق وانتهى باقتيادنا الى الصناديق الخلفيّة للسيّارات العسكريّة ورمينا فيها كأكياس رمل.
استمرّت حملة الضرب بأعقاب البنادق والركل بالأقدام والأيدي، وهنا أغمي على أخي علي عبد السادة. بعدها تصوّرت أنّي فقدت نظري لأنّي لم أعد أميّز سوى ألوان مرقّطة لجنودنا الأفذاذ. ثم عرفت أنّنا في ساحة التحرير من شدّة إطلاق النار الذي سمعناه. أنزلونا وعصبوا أعيننا وحذّرونا من مغبة رفع رؤوسنا.
وأنا أتلقّى دفعة جديدة من الركلات والضربات، استعدت ذلك الشعار: «الله يطيح حظج يا أميركا» عن نظام يجدّد القمع الذي اعتدناه في زمن صدّام. أوّل ما قيل لنا هناك: «حيوانات تتظاهرون ضدّ الحكومة، اليوم الله ما يخلصكم من إيدنا». واستمرّت الشتائم واللكمات، لأدرك عن قرب حجم الأكاذيب التي يسوقها ساسة العراق عن تأسيس نظام ديموقراطيّ، وهم يستعيدون السلوك البوليسيّ نفسه. أيّ أخلاق هذه التي يحملها الجنود العراقيّون وضباطهم، وهم ينزعجون من قلادة ذهب يرتديها أحد الزملاء، أو من تقليعة شعر علي السومري الذي قيل له بسببها «لست بعراقيّ، لعلك أفغانيّ».
يعيدونك الى غرفة الاعتقال. وبعد ساعة ربّما، يخرجونك الى غرفة ضابط التحقيق الذي يستغرق في الاستهزاء من الصحافة ومن ملابسنا، يقول وهو يسمع من جواله أغنيات إليسا: «كلاب ولد الكلاب تتظاهرون، مو عدكم رواتب بمؤسّساتكم، ليش تتظاهرون إذاً؟».
هذا هو منطق عسكرنا في العراق الجديد الذي يؤكّد مسؤولوه أنّ جنودهم خضعوا لدورات في حقوق الإنسان. أيّ انحطاط هذا الذي نحياه في عراق اليوم، حيث أخذ الجنود يسكبون الماء على رجلي هادي المهدي ويصعقونه بالكهرباء، وهو يصرخ قريباً منا؟ بعدها هددوه بالاغتصاب والقتل، كي يقول إنّه موالٍ لجهة خارجيّة ضدّ الحكومة، وهو المعارض الهارب من نظام صدام قبل عقدين. أنين أخي من كدماتهم، أخذ ينخر في جسدي، وأنا متيقّن أنّ نظري لم يعد سالماً، لكنّ تفكيري بقي محصوراً بسؤال واحد: «هل نُقتل ويلقون بجثثنا في المزابل، أم يلفّقون لنا تهمة تسوقنا الى الإعدام؟».
ولأنّنا اعتُقلنا أمام أنظار زملائنا زهير الجزائري، وأحمد المهنا، والشاعر والسينمائيّ رعد مشتت، أحرجت سرعة إبلاغ الوكالات والفضائيات باعتقالنا الجهات الأمنيّة.
بعد عشر ساعات، أخرجونا بعدما أجبرونا على توقيع ورقة ونحن معصوبو الأعين، قالوا لنا إنّها ورقة تعهّد بـ«عدم إثارة الشغب مجدداً». خرجنا برفقة ضابط اقتادنا الى مكتب فخم يعود إلى استخبارات الفرقة 11 من الجيش العراقيّ. هناك قالوا لنا: «نعتذر منكم، تعرفون أنّنا في وضع مربك وهذه الأخطاء تحصل. حتـّى إنّ ممثل مكتب القائد العام أتانا في وقت متأخّر من الليل ليشرف بنفسه على إطلاق سراحكم». هكذا، أطلقوا سراحنا تاركين مئات المعتقلين هناك لا تـُعرف مصائرهم، مثلما تركنا باقي الأمل بـ«العراق الحلم» في الغرف النتنة التي وُضعنا فيها. وأنا خارج، كان شعارٌ واحد يتردّد في رأسي: «الله يطيح حظج يا أميركا».