إنّه مبتهج في قبره الآن. بالتأكيد هو مبتهج إلى أبعد الحدود. لن ينتظر بعد اليوم. لن ينتظرها بعد اليوم. لن ينتظرهما بعد الآن، لا «رباب» ولا الثورة. ولن يغني «بَستنظرك/ رغم الشتا/ والبرد والرعد المخيف بَستنظرك/ في الشارع المشغول/ بأوحال الرصيف/ أنا أصلي حاسب موعدك/ وعارف اللي بيبعدك/ وأنا اللي خابر تبقي مين/ وأنا اللي صابر من سنين». هنا مقهى صغير وسط الدار البيضاء. اسم المكان «ميلانو» وكراسيه خضراء. الجميع يحملقون في التلفزيون. أخبار ثوار النيل لا تتوقف، والجميع ينتظر سقوط ديكتاتور جديد. «فلا يسقط ديكتاتور كل يوم». يدخل شيخ بصير. وجه نحيف. نظارة سوداء. سترة سبعينية رمادية قديمة. لون البشرة قمحي. إنه ليس الشيخ إمام عيسى، بل بصير مغربي، ظهر فجأةً الآن هنا؟
ماذا لو كان الشيخ إمام عيسى على قيد الحياة، يرافق شباب مصر الثوار؟ بالتأكيد لكان سيبتهج إلى أبعد الحدود. ربما يفتقد هذه الأجواء «مثلي أنا». ربما يحاول لملمة ما بقي من هيكله العظمي، ونبش تراب القبر، للّحاق بالأحرار إلى ميدان التحرير «مثلي أنا». أو ربما يطلب إذناً ممّن في السماء ليسمح لهم بالنزول مجدداً إلى أرض الشرفاء «مثلي أنا».
جلس البصير المغربي، لا الشيخ إمام، على الكرسي القريب. أنت قريب جداً أيها الشيخ. هل أنت بصير بالفعل؟ هل تريد أن تؤكد الموقف؟ أوكي. لقد ذكرتني بالشيخ إمام. أنت تشبهه كثيراً. هل تغنّيها الآن؟ إنها تحمل معاني أقوى في هذه المرحلة. سيكون لها وقع أكبر. هيا هيا. لا تتردد فهم لن يرجعوا إلى بيوتهم. سقط الشهداء «خلاص». دُفع الثمن «خلاص». غنّها الآن، فهي اللحن المفقود في هذه اللحظات. إنها اللحن المناسب ولا تخف. الوتر الأول، الوتر الثاني، الوتر الثالث، ويطلق العنان لصوته الذي لم يغيّره الموت: «كلّ ثورة وإحنا دايماً فرحانين/ اللي ماتوا فى المعارك فرحانين/ واللي حضر واللي شارك فرحانين/ واللي ساكنين الخنادق فرحانين/ والماسكين على المبادئ فرحانين/ واللي شايلين شوق لفكرة فرحانين/ واللي حاملين هَمّ بكرة فرحانين/ اللي كلمتهم أمانة فرحانين/ واللي معدتهم جعانة فرحانين/ كل ثورة وإحنا دايماً فرحانين».
ما زالوا يحملقون في شاشة التلفزيون الآن هنا. مقهى ميلانو وسط الدار البيضاء. الكراسي خضراء اللون. الرجل المغربي البصير، الشبيه بالشيخ إمام عيسى، لا يعطي أي إشارة إلى أنّه فهم بما أفكر، وأنني شبّهته ببصير آخر، بصاحب نظارة سوداء أخرى، كانت لديه قدرة التنبؤ بكل شيء، وقال في ذلك الزمن الغابر: «احنا اتوجعنا واكتفينا/ وعرفنا مين سبب جراحنا/ وعرفنا روحنا والتقينا/ عمال وفلاحين وطلبة/ دقت ساعتنا وابتدينا/ نسلك طريق مالهش راجع/ والنصر قرب من عنينا/ النصر أقرب من إدينا».
الأخبار تتوالى على شاشة تلفزيون المقهى الشعبي. المغاربة يتابعون. البصير المغربي يحرك رأسه يمنة ويسرةً تماماً كما كان يفعل الشيخ إمام قبل أن يشرع بالغناء. إنه يفتح فاه. هل يقول شيئاً؟ هل اكتشف لعبتي؟ تخرج الكلمات من بين شفتيه متسائلة: «ما زال ما طيروه؟» (ألم يسقطوه بعد؟).
أتته الإجابة من بين الجموع التي تتابع الأخبار: «ليس بعد». يحرك رأسه يمنةً ويسرة من جديد ويعلق: «لم يبق له الكثير إذاً. لم يبق لهم الكثير».
(الدار البيضاء)


إحنا جايين

أحمد فؤاد نجم (الصورة) رفيق درب الشيخ إمام وكاتب أغنياته كان نجم الثورة المصرية بلا منازع. أطلّ مراراً على «الجزيرة» ليقوّي عزيمة الشباب «لأنكم رفعتم رؤوسنا وغسلتم عارنا». واتهم السادات بأنه «ركّب مبارك على قفانا، الله لا يرحمو، لأنه أراد أن يضرب شباب مصر بالرصاص الحي» معرباً عن إيمانه بأن «الشباب المصري سيحسم المسألة، وإنّ غداً لناظره قريب، لأنّ مصر لا تموت». ووجّه تحيّة إلى «أهلنا في فلسطين، إحنا جايين جايين».