ثلاث صور لـ جورج الزعني (1942 - 2015). الصورة الأولى في شارع المكحول، خلال الحرب الأهليّة. أو بالأحرى «جمهوريّة المكحول»، وكانت تختصر روح «بيروت الغربيّة» التي تغلي بالأفكار والتجارب والتيارات، بمقاه وصفحات جرائد تغص بالكتاب والمثقفين والمناضلين العرب، بغاليريهات ومسارح وسينمات وصحف ومجلات وكتب وكاسيتات… وبمشاريع قوميّة وثوريّة. في الـ «سماغلز إن» تحديداً، ذات ليلة شتائيّة باردة، أذكر كل تفاصيلها. معطف طالب «معهد الفنون» البالي الذي كنت أرتديه، إنتبهت كم هو بال لما دخلنا إلى السماغلرز. هذا الفضاء الذي أطلق فيه الزعنّي فنانين، وشارك في كتابة صفحات من تاريخنا التشكيلي وذاكرتنا الثقافيّة. أذكر الأجواء الخاصة في الداخل بين إضاءة خافتة وموسيقى مريحة، الكنبات التي جلسنا إليها. لا أعرف لماذا أخذَنا عباس بيضون إلى السماغلرز، سيتا مانوكيان وأنا. كنت ذلك الصحافي المبتدئ الذي يعبر المتحف سيراً على الاقدام، ثم يركب السرفيس من البربير إلى الحمرا، ليكون حيث يجب أن يكون: في مركز العالم. أذكر دقّات القلب المتسارعة وأنا داخل الى السماغلرز. اللوحات المعلّقة على الجدران لبعض أهم فنّاني السبعينيات. صحون الفتوش التي أتى بها جورج بقامته الطويلة والرشيقة، قبل أن يجلس معنا. كنا نتابع أخباره في الصحف، ونُقبِل على المعارض والاحداث الثقافية التي ينظمها، كان وجهاً لا يمكن تجاهله في حياة المدينة. مؤسسة ثقافية بحد ذاتها. وها أنا أجلس قبالته في ذلك المكان المدهش، خارج الزمن، ولكن في قلب الحدث. أذكر أناقته وتلك البسمة الغريبة على وجهه، ذلك الشغف الأنثوي حين بدأ بالكلام. فهمت بعدها بسنوات، عندما صرت أعرفه جيّداً، أن الرجل، الذوّاقة، المرهف، العاطفي، الغَيْري، الأنيق دائماً، اللائق في تعاطيه مع الناس وأشياء الحياة كما يتعاطى مع اللوحات، والقصائد، والألحان، والأفكار… أن هذا الرجل مسرف في الكلام. وفهمت أنّها طريقته في اعادة ترميم العالم المتصدّع. بدأ بالكلام فصمت الجميع. عندما يتحدث جورج ليس لك الخيار: عليك أن تستمع. ليلتها صرت من المعجبين السريين بجورج الزعني!الصورة الثانية في لندن. وسط حلقة من جيرانه وزملائه وأصدقائه. الاستقبال الأنيق نفسه. لا أعرف لماذا تذكرت جلسة الـ «سماغلرز إن» قبل عشرين عاماً. واعترتني الرجفة القديمة إيّاها. كان الوقت قد مرّ، وخسرنا الكثير من أوهامنا. إلا جورج، كان يحاصرك بالتفاؤل القديم عينه، وبالأحاديث الجارفة التي لا تنتهي. حمل كل بيروته إلى باترسي، الذكريات والحكايات واللوحات التي تكتسح أدنى سنتمتر مربّع في شقّته. لكل لوحة قصّة، وكل القصص تعيدك إلى بيروت. قصص يختلط فيها لبنان بفلسطين والمقاومة، وتسكنها وجوه أهم الفنانين والكتاب العرب صنّاع العصر الذهبي للمدينة. ليلتها، فيما ضيوفه يرقصون ويشربون، أعدنا في زاوية الصالون صياغة التاريخ الفنّي لبيروت. تفرّجت عليه بفضول ودهشة مثل أيّام المكحول، وهو يحكي عن الكتاب والفنانين كأنّه يروي سيرته الذاتيّة. كانت السماغلرز بعيدة. فجّروها، وسافر. في قرارة نفسه، لمست ذلك الحزن، كان يعرف، وكنا نعرف، ألا معنى لوجوده إلا في بيروت. ليعوّض غيابه، نظم في لندن عدداً لا يحصى من النشاطات والمعارض، وكان موضوعها غالباً وطنياً. كان يهستر عليّ حين أقول إن بيروته انتهت إلى غير رجعة. ذات مرّة، جاء إلى مكتبي في «الحياة»، من دون أن يكلّمني، تناول ورقة وقلماً سميكاً وكتب بالفرنسيّة: «على بيار أن يذهب إلى الدكان ويشتري مئتي غرام نَفَساً إيجابياً»، علّقها فوقي على اللوح ومضى.
الصورة الثالثة في بيروت الحريريّة. عاد جورج، نعم عاد، ليلمس أن كل شيء تغيّر. ظهر منظمو معارض آخرون، صرنا نسمّيهم Curators. أيّام كان جورج يجمع القصائد واللوحات حول موضوعة محددة، فيخلق المعنى، لم يكن اسمه كذلك. والتجهيزات التي كان يخلقها لم نكن نسميها «تجهيزاً». لم نكن نعرف بصراحة! كلما التقيته، كنت أراه انعكاساً لجورج آخر من زمن آخر. واستمع الى مشاريعه الكثيرة التي يجب أن نكتب عنها! جاء مرّة إلى مكتب «الأخبار» ولم أكن في استقباله. ترك رسالة تأنيب، بأسلوبه الودود والمتعالي في آن. كنت أريد أن أقول له إن بيروت انتهت، إن بيروت لم تعد لنا، إننا نعيش في مدينة «الفن المعولم». لم أجد الفرصة لذلك. لم أجد الجرأة الكافية ذلك. هكذا ذهب جورج الزعنّي ولما يدرك أن مدينتنا نحن، سبقته إلى الأسطورة.

يحتفل بالصلاة لراحة نفسه الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم في «كنيسة مار الياس» (القنطاري- بيروت)