«حظر التجوال يبدأ عند الساعة الرابعة. لا تعرّضوا أنفسكم للخطر»، لكن لا أحد اليوم السبت 29 كانون الثاني (يناير) يعير سمعاً لهذه الرسمية في بلد تحرّر من الخوف. في ساعة حرجة يفترض فيها أنهم أوصدوا أبواب بيوتهم، لا يزال الناس يتسلقون كوبري ثروت، مترجّلين وغير مترجّلين، متجهين إلى الدقي والجيزة ووسط المدينة، ويتوقفون لينظروا إلى قسم بوليس بولاق الدكرور والدخان يتصاعد منه.
في هذا الحي، كما في غيره، ثلاثة أصناف من الكائنات الليلية. الأول أناس تعطّلت بأغلبهم السبلُ وهم عائدون إلى ديارهم، والثاني «مخرّبون» يستولون على كل ما يقع تحت أيديهم، مهما قلّ ثمنه، كالكشك الحديدي البائس قرب «مستشفى بولاق»، الذي نهب نهباً كاملاً. الصنف الثالث يضمّ أغلب السكان ممن يعودون إلى أحيائهم لحماية منازلهم بعدما أمضوا يومهم في العمل أو في التظاهرات.
ما إن يسدل الظلام ستاره حتى ينتظم الدفاع الذاتي في هذا الحي الذي يمكن اعتباره أحد تخوم قاهرة «الميدل كلاس»، تحيط به «الأحياء الشعبية» كما يقال أحياناً في مصر، تلميحاً إلى خطر غامض داهم. ويزيد من ضرورة تنظيم هذا الدفاع توارد أخبار، تزداد إثارة وهي تنتقل من قاهري إلى آخر، عن مشاركة مخبرين في عمليات السرقة والاعتداءات على المواطنين. البوابة المركزية مقفلة وحراسها يذهبون ويجيئون، على غير عادتهم. في شارع الحي الرئيسي، يتحرك حوالى عشرين شاباً مسلحين بهراوات وسكاكين طويلة، فيما ينتشر غيرهم قرب بوابات جانبية أخرى. يوجَّه المتطوعون الجدد نحو كومة أسلحة بيضاء موضوعة على الرصيف لينتقوا منها ما يشاؤون، فيما تتدلى من فوق أحد المقاعد الخشبية المهيّأة لاستراحة المتفسّحين فتائلُ أكثر من عشر زجاجات مولوتوف.
الساعة العاشرة ليلاً، والدراجات لا تزال تملأ الشارع. حركتها تزيد المخاوف. فالشائعات تشير إلى أنها وسيلة النقل المفضّلة لعصابات البلطجية التي انتشرت في القاهرة حالما أعلن حظر التجوال الليلي. النقاشات محتدمة بشأن «مستقبل» بلد نبذته، بين عشية وضحاها، شركات السياحة ووكالات تقويم المخاطر الاقتصادية. تختلف الآراء، لكن لا تتناقض في ما بينها. لا أحد يدافع عن حق حسني مبارك في البقاء في السلطة أو يجادل في حق مناوئيه في الاعتصام.
«تفتكرو ح يستقيل؟»، يسأل أحدهم، فيجيبه صاحبه: «لا. هو طيّار، والطيارين دول أعصابهم باردة. بس هو زوّدها شوية، ده كرة تلج، ولا كأنو داري باللي بيحصل». يتواصل الحديث على هذا المنوال، وتقطعه أحياناً ملاحظات كهول وقورين عن خطر انفجار المولوتوف على سياراتهم أو «سوء تحضيره» لأنه «اتعمل بقزاير بيبسي ثخينة، مش ح تنكسر لما توقع ع الأرض». تُلتقط أنباء ما يجري في أماكن أخرى بفضل الهواتف الخلوية (التي عادت إلى الخدمة «بفضل هيلاري كلينتون» على رأي أحدهم): لا خوف، فشبان اللجان الشعبية، في كل مكان، متحكّمون في الوضع والمتاريس تملأ المدينة.
وفي الوقت الذي يبدو فيه الجميع مقتنعاً باستحالة حصول هجمات بفضل هذا التجنيد، يبدأ النهب في الجوار. عصابات صغيرة في الخارج، وراء البوابة، يحاول بعضها دخول مستشفى بولاق الدكرور. لكنّ أهالي المرضى يصدّونه. «فيه حد يسرق مستشفى؟»، يعجب أحد الشبان المتطوعين وهو يسمع أصداء المشهد العنيف، فيرد صديقه: «أنا مرة شفت واحد سارق زبالة وكان بيقول: يمكن تنفع في يوم من الأيام». لا مراء في عنف المهاجمين، لكن لا شبه بينهم وبين الشخصيات شبه الخرافية التي تتحدث عنها الأخبار ـــــ الشائعات، فهم ليسوا متنكرين في زي منقّبات ولا مسلحين ببنادق كلاشنيكوف.
ولم يفتّ في عضد المهاجمين فشل أولى محاولاتهم. فها هي المدرسة الواقعة وراء سور الحي الغربي تمتلئ فجأة بهم، وطاولاتها وكراسيها تُنهب نهباً. يراقب شباب اللجنة الشعبية تنقّل العصابة بين أدوار المبنى العليا التي لا تفصلها عن كوبري الطريق الدائري سوى بضعة أمتار، لكنّهم لا يتدخلون، فتدخّلهم يعني لفت الأنظار إلى حيّهم الوارف الظلال، والمنتمي إدارياً إلى الحي الشعبي بولاق الدكرور، رغم انتماء أهاليه إلى الطبقات المصرية الوسطى. وما هي إلا دقائق، حتى يبدأ الهجوم على مدرسة أخرى، في الناحية الشرقية، لكن سكان العمارات المجاورة يطلقون النار في الهواء ويفرّقون شمل المتجمهرين.
يزيد الرصاص طمأنينة المتطوعين، فيخرج بعضهم أمام البوابة المركزية، حيث شبانٌ من الأحياء القريبة في طريقهم إلى المستشفى. يحيّونهم بحرارة. لكنّ الإجماع على رفض النظام القائم والإحساس بوحدة المصير لا يسقطان الحواجز الطبقية كلها مرةً واحدة. يعبّر أحدهم عن حزنه لكون حيّه الجميل الأنيق يقع إلى جانب «العشوائيات»، وآخرُ عن أسفه لأن «الثورة دي، اللي عملوها ناس زيي وزيّك، الحمد لله مش محتاجين فلوس، خلاص بقت ثورة ناس تانية، ثورة صُيَّع».
كيف وصل الأمر بمصر إلى ما هي عليه؟ لا جواب عن هذا السؤال سوى آهات التحسّر. لا أحد يأمل حلاً ما دام «الرئيس متمسّكاً بمنصبه والمتظاهرون متمسّكين بميدان التحرير». يتساءل شاب: «ليه ما يروحوش بيوتهم ويتظاهرو تاني بكرة بالنهار؟». يوافق البعض على كلامه، فيما يذكّره آخرون بأن «بداية النهب تزامنت مع فرض حظر التجوال». تدخل الحي سيارة يحكي سائقها عن بدء انتشار الجيش في الدقي والمهندسين، وينتقد استمرار الاعتصام في التحرير. ينصت إليه البعض باحترام، فيما يتساءل آخرون: «هو ليه ما يجيش يسهر معانا بدل ما هو قاعد يتكلم كده؟».
وفيما تتباطأ وتيرة النقاش ويطبق الإعياء الجفون، يُسمع صوت دويّ رهيب وتتعالى الأصوات: «الله أكبر»، ويهرع الجميع إلى الخارج لتحية بضعة جنود في مجنزرة باهتة اللون. يتوقف الجنود برهة لردّ التحية، ثم ينصرفون. يسأل شاب: «هم ماشيين ليه؟» فيُجاب: «علشان مهمتهم حماية الوطن مش بس حماية بيتكم». تبدو الطمأنينة كأنها ملأت القلوب. يعود الجمع إلى شارع الحي الرئيسي، ويتفرق أفواجاً، بعضها يتجاذب أطراف الحديث، وبعضها الآخر يستمع إلى راديوات السيارات. يستنكر أحد المتحمسين: «هو إنتو كده ح تنامو؟ هي المجنزرة حررتكم خلاص ولا إيه؟». لا يرد عليه أحد. يستطيل الليل قبل أن يبزغ فجر يوم جديد في مصر جديدة «عاشت في أيام كل اللي عاشته تونس في أسابيع»، على رأي أحد المتطوعين.
(القاهرة/ الجزائر)