في السابق، اعتاد الناس سماع الأخبار من «مونتي كارلو» و«بي بي سي» لعدم ثقتهم بإعلام «كُلّه تمام» الرسمي، الذي يبث أخبار الرئيس واستقبالاته. في هذا المناخ، جاءت «الجزيرة» لتمثّل ثورةً في الفضاء العربي عبر صناعة الخبر وأسلوب تقديمه وفتح الحوارات حوله على وقع آراءٍ متباينة، ممّا فتح الباب أمام مرحلة جديدة في الإعلام العربي فيها مساحات حرية غير مسبوقة. عقيدة «الجزيرة» الإعلامية كانت التوافق مع الخيار الشعبي في العداء لأميركا وإسرائيل، والانحياز إلى خيارات الناس في وجه أنظمتهم. وعليه، أعطت الصوت للمعارضة العربية وللناس العاديين. غطّت كل الجرائم التي ارتكبها الأميركيون والإسرائيليون في حق البشرية.
في أفغانستان، وقفت ضد الحرب، وأثارت غضب إدارة بوش، ونالت شهرة عالمية بتغطيتها. ثم جاءت حرب العراق، حيث كشفت فظائعها وكذب الأميركيين. وفي عدوان تموز 2006، غطّت الهجوم الإسرائيلي بحرفية عالية مستفيدةً من خبرة غسان بن جدو، فصنعت بذلك صورةً معبّرة عن واقع تلك الحرب وما حملته من مأساة سبّبتها آلة الإجرام، وانتصارٍ تاريخيٍّ حقّقته المقاومة. وفي غزة 2009، لم يكن المشاهدون ليعرفوا ما حدث فيها من حصارٍ وحرب بشعة لولا تغطية «الجزيرة».
بعدها، دخلت القناة مرحلة جديدة. بدأت تواكب عصر الإعلام البديل وتُطَوِّعُه في خدمة تغطيتها الإعلامية. فهمت أنّ مراسليها ليسوا فقط أولئك المنتسبين إليها، بل كل مواطن عربي يمكنه أن يكون مراسلاً لينقل ما لا تستطيع «الجزيرة» وغيرها الوصول إليه. فتحت الباب أمام صور كاميرات الأجهزة الخلوية عبر الإنترنت، وأمام الوثائق التي يمكن الناس العاديين تسريبها، ونجحت في تحقيق أكثر من سبق صحافي. تفاعلت مع تحرّكات الشباب على «فايسبوك» و«تويتر» ونقلت انتفاضاتهم التي تحولت إلى ثورة في تونس، وتقترب من ذلك في مصر. وكشفت بتغطيتها الأحداث في البلدين كذب الإعلام الحكومي وفشله. ونقلت صورة ما يحدث بصدقية عالية، فطُردت من تونس قبل أن يطرد الشعب النظام. وأغلق مكتبها في مصر في الوقت الذي يصارع فيه النظام ضد محاولة إسقاط عهده الأسود.
يصح القول في هذه اللحظات التاريخية إنّ «الجزيرة» مساهمٌ أساسي في صناعة التغيير التي تجري اليوم في العالم العربي. لقد تجاوزت دور ناقل الحدث وباتت شريكة الشعوب في رفض القمع، وإغلاق مكاتبها تعزيزٌ لشراكتها تلك. إنه الطوفان الإعلامي والشعبي... لا يوقفه الطغاة.