عن النكسة وعبد الناصر وأمور أخرىعندما أصدر صلاح جاهين ديوانه الأول «كلمة سلام» (1955)، كتب الروائي فتحي غانم في مجلة «آخر ساعة» مقالة عن الديوان بعنوان «شاعر مولود منذ 25 عاماً وعمره خمسة آلاف عام». بعد ظهور المقالة، استدعاه محمد حسنين هيكل، وكان رئيس تحرير المجلة، وسأله: «لماذا تكتب عن الشيوعيين؟ أخبرني جمال عبد الناصر أنّ صلاح جاهين شيوعي وأجهزة الأمن تراقبه!». ولعلّ من الألغاز التي تحيط بأسطورة الشاعر الكبير، أن يتحول من «شيوعي مشبوه» في نصر ثوار يوليو، إلى منشد الثورة ومغنّيها الأصدق.
ما الذي جرى إذاً؟ ربما كان سؤال العلاقة بين جاهين وعبد الناصر مفتوحاً باستمرار: هل أخطأ الشاعر الذي اندفع بصدق وبراءة ليغنّي للثورة، ويبشر بأحلامها؟ وهل حاول تخدير الشعب بالغناء كما يقول آخرون؟ الشاعر أحمد فؤاد نجم يردّ مستهجناً: «لا أتصور أن يكذب صلاح على الشعب المصري لحساب أي شخص. صلاح جاهين عاشق لهذا البلد. يمكن أن نلخّصه في كلمة: صلاح جاهين عليه السلام... وبس». ربما هذا العشق جعله يتوقف عن الكتابة بعد النكسة؟ يجيب نجم: «كلنا كنّا مصدّقين عبد الناصر. صلاح توقّف واكتأب بعد النكسة».
الشاعر سيد حجاب أثرت فيه النكسة، لكن تأثيرها عليه لم يكن كالمنخرطين تماماً مع النظام. هل يمكن أن يكون جاهين من المنخرطين كلياً في النظام؟ يجيب حجاب: «وضع المسألة بهذا الشكل يحمل تجنّياً عليه. هو كان مؤمناً بقيادة عبد الناصر». ويؤكد: «بعد النكسة، لم يتوقف جاهين عن الكتابة ولم ينسحب، حتى عندما تعرض للهجوم من بعض المراهقين السياسيين بعد فيلم «خلّي بالك من زوزو»، الذي كتبه وأنتجه. النكسة الحقيقية له بدأت مع كامب ديفيد، وعبرت عن نفسها في قصيدته «على اسم مصر»». الشاعر عبد الرحمن الأبنودي يختلف عن حجاب ونجم. يرى أن ارتباط جاهين بفكر ثورة يوليو 1952 وإيمانه بعبد الناصر، جعلاه يكتب أغنيات تشيد بالزعيم. ويعتبر إنجازه مع كمال الطويل وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم في تلك الفترة إنجازاً هاماً يكشف عن مدى تعلق الشاعر بزعيمه.
في بعض مشاهد فيلم «حليم» للمخرج شريف عرفة، نجد استخداماً لبعض الأغنيات السياسية التي كتبها صلاح جاهين، ولحّنها كمال الطويل، وأدّاها عبد الحليم حافظ. وقد كانت أهمّ تعبير فني عن طموحات ثورة يوليو وقائدها عبد الناصر. ويصل الفيلم إلى ذروته عندما نرى صلاح جاهين (جسّد دوره ابنه الشاعر والكاتب بهاء جاهين) وقد تهاوى كجبل بعد هزيمة 1967 وقال: «لم نكن نغنّي للناس، بل كنا نغنّي عليهم».
هل كان شاعر سلطة كما كان يقول بعضهم؟ يجيب بهاء جاهين: «القيادة السياسية في زمنه كانت تتبنى مشروعاً اشتراكياً يحاول تحقيق العدالة. صودف أنّ زعيم النظام هو في قلب صلاح جاهين. بهذا المعنى، لم يكن صلاح شاعر سلطة. كان يحب زعيماً وطنياً قادراً على تحقيق رؤيته الإنسانية في الواقع المعيش». بالفعل كانت النكسة مؤلمة لجاهين، حتى إنّه تراجع أمام الهجوم الذي تعرّض له في السبعينيات بسبب ما كتبه عن الثورة. وعندما استعاد هدوءه، عاد ليعلن: «لست نادماً على ما كتبته من أغان للثورة». دفاع جاهين عن نفسه أمام الهجوم القاسي عليه في السبعينيات كان انسجاماً مع الحقيقة. لم يكن من المثقفين الذين تستأجرهم السلطة للدفاع عنها، بل كان صادقاً. وربما لهذا، لا نزال اليوم نستمع إلى أغنياته كأنّنا نريد أن نهرب من عصر يغصّ بالهزائم... إلى زمن آخر يمكن اختصاره بهزيمة واحدة!