في ظلام سيارة الترحيلات، كنت أطمئن نفسي إلى أنّه ما زال لديّ العين اليسرى. اليمنى لم تكن ترى سوى بقعة سوداء دائرية، وكل الاحتمالات ممكنة، من الكدمة البسيطة إلى انفصال الشبكية. لم يكن وارداً البحث عن مساعدة. بجواري كان يرقد منهاراً أربعينيّ مصاب بالسكري. وثمة حالتان أو ثلاث من الإغماءات. العربة الحديدية الضيقة، شبه معدومة الشبابيك، كانت تضم أكثر من ثلاثين محتجزاً.
لكنّ الرعب بدأ عند إطلاق قنابل الغاز على مجموعة محتجّين قريبة من ميدان التحرير. قنبلة الغاز تصيب بالغثيان، وتلهب العين في المساحات المفتوحة، لكنها قد تقتل في المساحات المغلقة. هذا ما كان قد بدأ يحدث فعلاً في العربة المزدحمة التي تسلّل الغاز إليها من المساحات الضيقة بين القضبان الحديدية. ازدادت الاغماءات وبدأنا بالطرق من الداخل على جدران السيارة من دون استجابة. خطرت لي لحظتها عشرات الحوادث الشبيهة عن محتجزين اختنقوا في سيارة الترحيلات حتى من دون قنابل غاز، ولم أعد أفكر في عيني!
كنا قد تحرّكنا في التظاهرة من شارع شمبليون في وسط البلد. الشارع التجاري العريق نال نصيبه من قنابل الغاز، وامتلأ بأسوأ اختراع في عهد مبارك: البلطجية والمجرمون الذين يحضرونهم بالسيارات، في أيديهم الجنازير والسلاسل الحديدية والأسلحة البيضاء، يندسّون وسط المتظاهرين ويهتفون معهم، ثم يبدأون بالهجوم عليهم من قلب التظاهرة. مواجهات «شمبليون» اشتعلت ثم تحركنا إلى شارع رمسيس وازداد العدد. وازداد مجدداً عند حافات منطقة بولاق أبو العلا. وعندما وصلنا إلى ميدان عبد المنعم رياض، بدت التظاهرة كبيرة ومهيبة. وعند مقر الحزب الوطني، بدأ الهجوم الثاني.
تراصت تشكيلات قوات الأمن المركزي أمام بوابتي مقر الحزب الذي تعرّض للهجوم في الليلة السابقة. المشهد المألوف لم يعد يثير الرعب. الخُوَذ والملابس السوداء والعصي في صفوف منتظمة. اقتربت المدرعات وبدأت بإطلاق قنابل الغاز. ومثل الليلة السابقة، انطلق الرصاص الحي في الهواء من وراء أسوار مقر الحزب. وبينما ترقّب المتظاهرون هجوم الجنود، انطلق الهجوم فجأة من أصحاب الزي المدني. هؤلاء ليسوا من البلطجية، بل من مباحث أمن الدولة المدربين على الاعتقال. القواعد القديمة تقول للمتظاهر ألّا يقاوم إذا لم يستطع الهرب، وذلك تجنّباً للضرب المبرح. طاردني اثنان من المباحث وهربت منهما، وانخلع المعطف في يديهما. لكنّ ثالثاً ظهر في مواجهتي مسدّداً لكمة مظلمة إلى عيني اليمنى. انكسرت النظارة في وجهي ووجدت نفسي على الأرض. تكوّمت متلقياً الركلات واللكمات. الأدرينالين حجب شعور الألم، ووجدت نفسي محمولاً يعبرون بي إلى الناحية الأخرى من الطريق. الضرب مستمر أثناء سحلي إلى هناك، والأسئلة لا تتوقف: ماذا تعمل؟ أين تسكن؟ بين كل سؤال وآخر، لكمة أو ركلة أو سبّة.
بين سيارات البوليس المتراصة أجلسوا المحتجزين على الأرض منفردين، انتزعوا المحفظة واستولوا على بطاقة الهوية والهاتف المحمول. جاءت سيارة ميكروباص، نقلوني إليها بصحبة شرطي جلس أمامي، بينما تمدّدت منخفضاً في آخر العربة. تحركت السيارة مخترقة حواجز حديدية خلف سور المتحف المصري. نظر إليّ الشرطي بالملابس المدنية وفاجأني: «مالك؟». قلت له: «عيني اليمنى». أزاح يدي ونظر في وجهي، ثم مارس فجأة دور الطبيب في السيارة الخالية إلا منّي، إضافة إليه وإلى السائق. وضع كفه على عيني اليمنى أولاً، وسألني عن الرؤية، ثم رفع يده ووضعها على العين اليسرى، وسألني إن كنت أراه. «نعم أراك» أجبت. رفع يده وقال: «ما فيش حاجة!».
نزلنا من الميكروباص إلى ميكروباص آخر. وجدت هناك من أعرفهم، الصحافية لينا الورداني، والسينمائيين هالة جلال وسامي حسام. جلست في المقعد الأخير. انهمكت هالة ولينا في تأنيب الضابط ودحض الحجج التي ردّ بها حتى انفجر: «أنا مرتّبي 700 جنيه وعندي ثلاثة أطفال». أكد أنه ليس ضدنا، لكنّه يقوم بعمله.
تحرك الميكروباص مجدداً بعدما انضم إلينا شابان صغيرا السن والحجم، عمرهما لا يتجاوز الثامنة عشرة ربّما. كانا خائفين ويبدو أنّهما اعتُقلا عشوائياً. حاولنا طمأنتهما حتى هدآ قليلاً. وعاد خوفهما عندما توقفنا أمام سيارة الاحتجاز الكبيرة، وأمرونا بالصعود. بقيت لينا وهالة في الأسفل، بينما صعدتُ وسامي والشابين إلى السيارة. للوهلة الأولى، بدت في الظلام فارغة، لكن اتضح أنّها عتمة الأجساد المتلاصقة. لا مكان للجلوس، بالكاد استطعت الوقوف عند أحد الشبابيك القليلة الصغيرة التي تشابكت قضبانها لتسمح بأقل تنفس ممكن. عندما تسرّب الغاز إلينا في الداخل، بدا أنّنا نموت. لم يكن معي منديل، فأعطاني أحد المحتجزين طرف شاله، ووضع كلّ منّا طرفاً من الشال على أنفه. انتشرت تعليمات التنفس: «ليس من الأنف، لا تدعك عينيك». بعد دقائق، تحركت السيارة، ودارت دورة وعادت إلى طرف الميدان. هدأ الغاز، وبدأوا بإنزالنا واحداً واحداً. مررنا على ضابطين على التوالي، كان أحدهما مدير أمن القاهرة بنفسه. سألانا أسئلة قليلة، أعادا إلينا الهويات والهواتف. تحركت في طرف الميدان وأنا لا أرى شيئاً من دون النظارة. وجدت يداً تمسك بذراعي. كان أحد الشابين الصغيرين اللذين كانا معنا في الميكروباص. سألني: «مش محتاج حاجة؟ أوصلّك حتة؟». شكرته. وإذا به يخرج ما في جيبه من جنيهات قليلة ويقول: «إحنا ممكن نقسمهم». ابتسمت، وانتبهت لحظتها أن قنابل الغاز ليست المسيل الوحيد للدموع.



مساء الأربعاء، شارع ٢٦ يوليو

منى برنس*
في السادسة والنصف مساء يوم الأربعاء الماضي، انضممت أنا وأصدقاء وآخرون لا أعرفهم إلى مسيرة سلمية احتجاجية في منطقة وسط المدينة، في شارع قصر النيل. وكان المتظاهرون يسيرون بأدب من شارع إلى آخر في محاولة للهرب، وتجنّب عناصر الأمن المركزي الذين بدوا في حيرة وارتباك بشأن كيفية محاصرتنا وتفريقنا. كنت أنا والمجموعة التي معي في الخلف، وأمامنا وخلفنا ضباط الأمن يتكلمون عبر أجهزتهم اللاسلكية. سمعناهم يقولون ما مفاده أنّهم لا يعرفون كيف يحاصروننا. استمررنا في السير من دون خوف، وانضمّ إلينا الكثير من الشباب والبنات من الشوارع الجانبية والمحال. وكنّا نردّد «ارحل» و«الشعب يريد إسقاط النظام». لم نعتدِ على منشآت أو سيارات، ولم نهاجم أحداً. كنّا نسير وسط الشوارع من دون أن نمنع مرور السيارات، وإن كنا قد أبطأنا سيرها باتجاه شارع ٢٦ يوليو. ثم ظهرت قوات الأمن المركزي من الأمام والخلف. وبدأت تركض نحونا بقوة، فجرينا متفرقين محاولين الاحتماء بالمحال. وفجأة، بدأ بلطجية الأمن ووزارة الداخلية الذين يرتدون ملابس مدنية بالقبض العشوائي على الشباب والبنات وضربهم بقوة. رأيتهم يقبضون على شاب كان يسير أمامي. دفعوه وألقوا به على الأرض، وانهالوا عليه ضرباً وركلاً، حتى أُغمي عليه. صرخت فيهم، فاندفع نحوي أربعة أو خمسة رجال وجرّوني من شعري. ضربوني على وجهي، ثم بدأوا يركلونني، وألقوا بي على الأرض مع الشاب الذي فقد وعيه وهم يقولون «طب يللا حصّليه يا بنت القحبة»، وردّ آخر «مرة قحبة». واستمروا بضربي وركلي، وراحوا يدوسون رأسي بأحذيتهم، حتى سال الدم من فمي وهم يسبّونني بأقذر السباب. ثم جرجروني وهم ما زالوا يركلونني ويسبونني إلى شارع ٢٦ يوليو، حيث ألقوا بي في واحد من تلك الميكروباصات التي لا تحمل لوحة أرقام. وفعلوا الشيء نفسه مع شباب آخرين أدخلوهم بوحشيّة إلى السيارة نفسها، من بينهم الشاب الذي كنت أدافع عنه وفقد وعيه. وأثناء محاولتهم حشري داخل السيارة، كانوا يتحرّشون بي جنسياً، ويحاولون تعريتي. واحد أمسكني من صدري، وآخر من وسطي، وشخص آخر أمسكني من أسفل ظهري ثم دفعوني إلى الداخل. كان هناك خمسة أو ستّة شباب وربما أكثر داخل السيارة. حاولت الاتصال بأصدقاء بعيداً عن أعين الأمن، لكنهم رأوني. سحبوني من داخل الميكروباص، وأمروني بالنزول وهم يسبّونني، وخطفوا مني التلفون المحمول بالقوة ثم سحبوني إلى خارج السيارة وألقوا بي على الإسفلت. رغم الألم، سأستمر بالاحتجاج.
(القاهرة ٢٧ ك2/ يناير ٢٠١١)

* أكاديمية وكاتبة مصرية