من يذكر تلك الأيّام الدامية، حين تناحرت قبائل ماركس في جنوب اليمن، فقضت على مشروع فريد في التاريخ العربي ـــ الاسلامي المعاصر؟ انتظر أحمد الصيّاد 24 عاماً كي يروي لنا ما جرى في كانون الثاني (يناير) 1986 بين رفاق الحزب الاشتراكي «الذين دمّروا خلال 11 يوماً ما لم تدمره الحرب اللبنانية خلال 11 عاماً». كتابه «اليمن وفصول الجحيم» (الريس)، يأتي بعد كل هذه السنوات التي شهدت أحداثاً كثيرة: ذهب اليمن الجنوبي إلى وحدة مع الشمالي، واندلعت حرب بينهما إثر فشل تلك الوحدة الارتجالية. انتصر الشمال، وراح في إذابة الجنوب ثقافياً وسياسياً. «في هذا العمل من الحقائق قدر ما فيه من الخيال. أما تصنيفه فأتركه لتقدير القارئ» كتب أحمد الصيّاد في مقدمة الكتاب. وعليه، من حقنا وضع الكتاب في مقام السيرة الذاتية، خصوصاً أنّه يتقاطع مع سيرة الصياد الذي كان في حركة القوميين العرب قبل أن يذهب إلى الحزب الديمقراطي الثوري ثم الحزب الاشتراكي في الجنوب قبل وحدة 22 أيار (مايو) 1990 التي جمعت بين شطري اليمن. العمل سيرة ذاتية وإن جاءت ضمن حكاية تقودها شخصيات عديدة على رأسهم الراوي صادق بن محمد المنصوري. إنّه سيرة تدعمها يوميات مكتوبة عن سير الأحداث التي صاحبت كارثة 13 يناير، والحرب بين قيادات الحزب الاشتراكي اليمني وما تلاها. يوميات مكتوبة من خلال شاهد حقيقي، وحولها تنويعات على الهامش تستند إلى قصة كلاسيكية لعائلة من الشمال لديها ولدان: يذهب الأول (صادق) إلى عدن بعد دراسته الطب في إحدى الدول الاشتراكية، في حين يلجأ الثاني (عمار) إلى حضن السلطة «الفاسدة» في صنعاء ويصبح أحد رموزها.
وقد يكون لنا أسئلة هنا: لماذا وضع أحمد الصياد تصنيف الكتاب مفتوحاً بين أيدينا؟ هل يشترط منصبه الحالي كمساعد مدير عام اليونسكو للعلاقات الخارجية والتعاون، عدم الكتابة في الشأن السياسي؟ هل يخشى لوماً على ما سرده من أحداث خصوصاً أنّ أبطالها على قيد الحياة موزعين بين اليمن والمنفى؟ لقد أفلت المؤلّف فرصة الإمساك بحدث ـــ في أهميّة يناير 86 ـــ شكّل تغييراً جذرياً في بنية المجتمع في اليمن الجنوبي. وترك خيوط الأحداث في كتابة مرتخية عبر سردها في قالب حكائي مسرف في عاديته. واعتمد جملاً تكاد تقترب من الشفاهية التي نقع عليها عادةً في سياق حديث عابر. جمل لم تستفد من خزانة الواقعة الدامية بما كان سيمنح الحبكة قوتها وصلابتها.
كان بإمكان الصيّاد إنقاذ كتابه من هذا الارتخاء، عبر تحديد تصنيفه بشكل واضح. كان هذا ليمنح فرصة قراءته كنص يسرد واقعة بأدوات ولغة غير متكلفة أو مشروطة بتوفير متطلبات العمل الروائي.
كما كان سيكسبه نقطة أكيدة باعتباره شهادة وحيدة عن «مجزرة» ذهب ضحيتها 16 ألف مواطن يمني في واقعة أدرجت ضمن قائمة عشرة أحداث هزت العالم في القرن الفائت.
لكنّ الصياد اتّخذ لنفسه تلة عالية وقف عليها، مكتفياً بوصف ما جرى، ومحمّلاً المسؤولية لكل الأطراف. هكذا أضاع الكاتب فرصة ذهبية لتقديم سيرة متقنة عن كارثة يمنية لم تأخذ حقها تماماً من التدوين والكشف والتوثيق. ربّما علينا أن ننتظر أعمالاً أخرى تؤرّخ لأحداث يناير 86 في اليمن، وتوليها عناية أكبر.