لا تجد شذى ناصر صعوبة في تذكّر اسم مدرستها في بيروت وعنوانها. «عطايا الجديدة ـــ الحمرا، شارع جان دارك»، تقول. ذاكرتها متينة وحاضرة، تلتقط تفاصيل صغيرة من أيام مضت، كأنها لا تودّ مغادرتها أبداً. طفولتها البيروتيّة برفقة والدها سفير اليمن الجنوبي (سابقاً) في لبنان، كانت ورديّة حتى 30 نيسان (أبريل) 1973، يوم عاد إلى عدن ليموت في حادث سقوط طائرة مفجع. كان على متن تلك الطائرة عدد من السفراء المعتمدين لليمن الجنوبي، وكان من بينهم الروائي محمد عبد الولي.
ثبّتت الكارثة طفولتها عند ذاك التاريخ المشؤوم. «قالوا لنا إنّهم فتحوا تحقيقاً لكشف أسباب الحادث، لكنّنا لم نسمع شيئاً». تواصل شذى سردها في دائرة الطفولة نفسها. كأنّها تريد تأكيد نقطة التحوّل الكبرى في حياتها، التي دفعتها إلى اختيار مهنة المحاماة. «حفّزتني قضية والدي على عدم التنازل عن حق أو المساومة عليه». وتضيف إن التنازل عن الحقوق أو عدم السعي وراءها، يصبّ في سياق دعم الظلم.
بعد رحيل والدها، عادت برفقة عائلتها إلى عدن، حيث أكملت دراستها الثانوية بمساعدة والدتها، العاملة في السلك التربوي. «لم تتأخر والدتي عن الوقوف إلى جانبي في كل وقت».
محطة فاصلة أخرى في حياتها، كانت حصولها على منحة لدراسة الحقوق في براغ. ست سنوات دراسية تمكنت خلالها من الحصول على ماجستير في القانون، ثمّ عادت إلى بلادها. بدأت حياتها المهنيّة من صنعاء، لا من عدن، رغم اعتراض الأهل: فكيف ستعمل الحقوقيّة الشابة بمفردها وسط بيئة ذكورية بحتة غير متقبّلة، وليست معتادة على دخول المرأة إلى قاعة محكمة؟ تلك القاعة التي لم تكن تدخلها امرأة إلا في حالتين: أن تكون متّهمة أو مدّعية. وقد استوقفها حاجب المحكمة فعلاً، أيام البدايات تلك، سائلاً إذا كانت هنا لقضية طلاق أو سواها، فأخبرته بأنّها محامية. رويداً رويداً، اعتاد العاملون هناك على رؤيتها داخل المحكمة، وهي ترتدي ثوب المحامين الأسود. «مع الوقت، استطعت تكوين علاقات جيدة مع العاملين في المحكمة، وصار التعامل معهم يجري بطريقة سهلة من دون تعقيدات أو أفكار مسبقة».
في تلك القاعة، ذات يوم من أيّام 1994، عام اندلاع الحرب بين طرفي الوحدة اليمنيّة، التقت أستاذ القانون الدولي محمد السقاف الذي سيصبح رفيق دربها. اتخذ هذا الكاتب المشاكس موقفاً صارماً إلى جانب حق أهل الجنوب في تقرير مصيرهم. مواقف كلّفت الثنائي العيش في دوامة من القلق الدائم، وخصوصاً مع بداية خوض شذى غمار القضايا السياسية، حين قبلت الدفاع عن مواطنَين جنوبيين، اتُّهِما بالتخابر لمصلحة إيران. «انزعجت بعض الجهات من موقفي هذا، وخصوصاً بعدما صرّحت بعدم شرعية المحكمة التي تحاكم المواطنين الجنوبيين»، تخبرنا ناصر. وتؤكد الحقوقيّة أن موقف السلطات منها ومن زوجها «مبالغ فيه»، وتعتقد أنّهم «يستهينون بنا لأننا لم نقبل اللجوء إلى المنطق القبائلي، ولم نبحث عن قبيلة تحمينا».
لم تمرّ مواقف الحقوقيَيْن من دون عقاب. أثناء سفرهما مع طفليهما في إجازة خارج البلاد، عمد رجال تابعون لإحدى الجهات الأمنية ــــ اتضح لاحقاً أنها من الأمن القومي ـــ إلى إنزالهم من الطائرة، بداعي ضرورة مثول محمد السقاف أمام القضاء بتهم عدة. «كان بإمكانهم استدعاء زوجي عبر مذكرة قانونية، لكنهم تعمّدوا إهانته». أفرج لاحقاً عن الرجل، بعد فترة احتجاز دامت أياماً، بعد تدخّل منظمات حقوقية في الداخل والخارج.
هكذا واصلت شذى ناصر حياتها على أكثر من جبهة. ربة بيت ملتزمة برعاية أسرتها، ومحامية تواصل الانتصار لضحايا الظلم... بقيت كذلك، قبل أن ينقلها ملف تزويج القاصرات إلى مرحلة أخرى. نجحت ناصر في الإمساك بهذه القضيّة، ووضعها في الواجهة. هكذا، ارتبط اسمها بقضية الطفلة نجود التي تحوّلت قضية تزويجها إلى محط اهتمام العالم عام 2008. قضيّة لفتت الرأي العام العالمي إلى مصير طفلات بريئات، كل ذنبهنّ أنهنّ ولدن في مجتمع فقير وجاهل.
عندما أتت نجود ـــ ابنة العاشرة في ذلك الحين ـــ إلى المحكمة لطلب الطلاق من زوجها الذي يكبرها بـ 27 عاماً، لم تجد محامياً يتولّى الدفاع عنها. ظلّت تتردد على المكان خمسة أيام متتالية، إلى أن عثرت على شذى وأخبرتها ما تريد. «في البداية، لم أستوعب ما تطلبه تلك الفتاة الصغيرة، لكونه سابقة في بلاد، لا يُمثّل فيها زواج الصغيرات همّاً عامّاً». لكنّها لاحظت ذكاءً واضحاً يلمع في عيني نجود. «كانت مبتسمة طيلة الوقت، وواثقة من نفسها، ومن خطوتها، وهي تسير بجانبي». في تلك القضيّة، حرصت المحامية المسكونة بهاجس الدفاع عن حقوق الإنسان، على التواصل مع الصحافة. «كنت مدركة أنّها قضية رأي عام، وأنّ الصحافة ستؤدي دوراً حاسماً فيها». وهذا ما كان. في اليوم التالي، صار اسم نجود خبراً أول في وكالات الأنباء العالمية، ما دفع القاضي إلى بتّ قضيتها بسرعة، وحكَم بخلع الطفلة عن زوجها في جلسة واحدة.
في العام نفسه، منحت نجود ومحاميتها لقب امرأة العام، متغلبةً على... هيلاري كلينتون، عضو مجلس الشيوخ الأميركي حينذاك. وكرّمتها مجلة «غلامور» في نيويورك، ما ساعد في تسليط الضوء أكثر على مأساة زواج القاصرات في العالم الثالث.
تواصل شذى ناصر اليوم الإمساك بهذا الملف «المؤلم» كما تصفه. تواجه في كلّ يوم قضايا وتفاصيل جارحة تخدش قلبها. «أسمع بأحداث تفوق قدرتي كأمّ وكإنسانة على التحمّل، ليس أقلّها قصة طفلة تدق رأسها في جدار غرفتها طوال الليل، محاولة إبعاد النوم عنها، كي لا يأتي الزوج ويعتدي عليها!». وهناك تفاصيل أخرى، أكثر إيلاماً، لا يسمح لها ضميرها المهني بسردها لنا كما تقول. تبقى هناك مشكلة تواجهها مع نهاية كل قضية، وتتمثل في كيفية إفهام الصغيرات أنّ كل شيء انتهى، وأنّه قد صار عليهنّ بدء حياة جديدة بعيداً عن «ماما شذى». غداً، يصدر الحكم في قضية أخرى بطلتها ضحية جديدة، اسمها غادة. هل أنتِ متفائلة أيضاً بكسب هذه القضية؟ نسألها. «عملت كل ما ينبغي فعله. نعم متفائلة»، تردّ. ونحن أيضاً يا شذى.


5 تواريخ


1966
الولادة في عدن
(اليمن الجنوبي آنذاك)

1973
وفاة والدها

1990
الماجستير في القانون
من «جامعة براغ»

2008
بدأت المرافعة في قضايا الزواج المبكر
مع قضيّة الطفلة نجود

2011
اللمسات الأخيرة على كتاب يروي
سيرتها المهنيّة والشخصيّة