الواقع الصعب... و«لا شيء أكثر»!منذ أن أطلق داريوش مهرجويى (1939)، في فيلمه الرمزي «البقرة» (1969)، الشرارة الأولى للموجة الجديدة في إيران، والسينما الإيرانية تفرض نفسها بقوة على الساحة العالمية. ربما لم يدر في خلد داريوش أن فيلمه الذي أعجب الخميني وقتها، قد يكون أنقذ السينما الإيرانية من المنع في مرحلة ما بعد الثورة، وقام بالخطوة الأولى لبعث روح الواقعية والرمزية الجمالية في الجيل الجديد من المخرجين.

اليوم، لدى ذكر الموجة الإيرانية الجديدة، لا يمكن ألا نقف عند تجربة عباس كياروستامي، ومحسن مخملباف، وماجد مجيدي، وبعدهم جعفر بناهي... وفيما تبقى الواقعية القاسم المشترك بين هؤلاء، إلا أنّ كلاً منهم يتمتّع بعالمه السينمائي وخصوصيته الأسلوبيّة. ولعلّ تظاهرة «متروبوليس» الاستعاديّة التي انطلقت أمس بعنوان «الحياة ولا شيء أكثر» تأتي لتضيء على تجربة فنّانين أساسيين ـــــ كياروستامي وبناهي ـــــ عانى كل منهما الأمرّين من الواقع السياسي وانعكاساته الجماليّة والفكريّة والإنتاجيّة.
كياروستامي (1940) يبقى الأكثر تأثيراً وإثارةً للجدل، علماً بأنّه في إيران بعد الثورة الإسلامية، ليس سهلاً الحديث عن سينما كياروستامي، وإن بدا الأمر مغرياً لبساطته. أوّل تجربة سينمائية خاضها مع شريطه القصير «الخبز والزقاق» (1970 ـــــ 21/1) الذي أوضح فيه ملامح أسلوبه السينمائي. في عمله القصير الثاني «وقت الاستراحة» (1972 ـــــ 22/1)، تطور أسلوبه من لقطات طويلة وبعيدة تتكرر في مشاهد أولى في المدرسة حتى الخروج، إلى الطبيعة والنهاية ذات الطابع المفتوح. الواقعية إذاً من أبرز سمات سينما كياروستامي، كغيره من المنتمين إلى الموجة الإيرانية الجديدة، مثل جعفر بناهي. لكن ما يميّز واقعيّته إضافته للبعد الشاعري والفلسفي كطبقة أخرى موازية لخط الفيلم. يحاول كياروستامي استكشاف الحالة الإنسانية عبر علاقة شخصياته بمساحات الطبيعة الإيرانية، شخصيات تجد نفسها في رحلة وجودية، سواء في الطريق إلى متعة الحياة أو الانتحار.
ويهتم صاحب «نسخة طبق الأصل» بالطبيعة الإيرانية في أفلام مثل «أين منزل الصديق؟» (1987 ـــــ 18/1) الذي كان بداية طريقه إلى العالمية، و«الحياة ولا شيء أكثر» (1992 ـــــ 20/1)، وصولاً إلى تحفته «الريح ستحملنا» (1999 ـــــ 22/1). قد تبدو صورته بسيطة في الظاهر، لكنها تملك أبعاداً تأملية جذابة. في «المسافر» (1974 ـــــ 17/1) باكورته الروائية الطويلة، يستكشف كياروستامي ثنائية الخير والشر عبر شخصية الطفل حسن المثير للمتاعب، ورحلته لجمع المال بالكذب والسرقة كي يجلب بطاقة لحضور مباراة يشارك فيها فريقه المفضل. وفيما الموقف من بطل القصة يبدو واضحاً، سيبتعد كياروستامي عن هذا النوع لاحقاً من أجل سينما أكثر تأملية، خالية من عناصر القصة التقليدية.
في «طعم الكرز» (1997 ـــــ 21/1)، لا أحد يعرف لماذا يريد بادي الانتحار. نكتفي بتتبّع رحلته في سيارته ـــــ إحدى علامات سينما كياروستامي ـــــ في محاولة لإيجاد شخص يرغب في مساعدته في دفنه. قضية الحياة والموت تخيّم على عالم كياروستامي السينمائي، ويركز على أهمية أن تجعلنا السينما والفنون نغادر الحياة العامة، لنسكتشفها من أبعاد أخرى. هذا ما يجعله يذيب الواقع في الخيال، أو العكس، أي أن يجعل ذلك الخط الرفيع بين العمل الروائي والوثائقي يذوب أحياناً، كما في «الحياة ولا شيء أكثر»، وتحفته «لقطة مقربة» (1990 ـــــ 19/1)، ثم «طعم الكرز». ومن المؤكد أن اهتمامه بالشعر، واحترافه التصوير الفوتوغرافي، من العوامل التي أثّرت في صورته السينمائية، أو في طريقة تناوله الأبعاد الفلسفية والجمالية لتلك الصورة.
سينما كياروستامي تثير الجدل أينما حلّت. رغم الاحتفاء النقدي العالمي به، بقي يواجه بعض الانتقادات، كتخلّيه عن أسلوبه القديم والذهاب نحو المناطق الرمادية. علاقته ببلده إيران مضطربة، إذ ترفض السلطات عرض أفلامه هناك. وهو في النهاية لا يقدر على صنع أعماله إلا في إيران كما يوضح، رغم الاستثناء الوحيد الذي مثّله فيلمه الأخير «نسخة طبق الأصل» الذي افتُتحت به تظاهرة «متروبوليس» أمس، تمهيداً لنزوله إلى الأسواق اللبنانيّة. وتجدر الإشارة إلى أن علاقته مضطربة أيضاً بالولايات المتحدة التي رفضت منحه تأشيرة دخول إلى نيويورك في 2002.
ومن كياروستامي إلى أحد أبرز وجوه الجيل الثالث في الموجة الإيرانية الجديدة. إنّه جعفر بناهي (1960) الذي تعرض تظاهرة «متروبوليس» ثلاثة من أفلامه. والأخير علاقته بكياروستامي قديمة، إذ عمل معه كمساعد مخرج في فيلمه «من خلال أشجار الزيتون» (1994). وكتب كياروستامي السيناريو لفيلمي بناهي «البالون الأبيض» (1995 ـــــ 24/1) و«الذهب القرمزي» (2003 ــــ 25/1).
يشترك الاثنان في الانتماء إلى تيّار الواقعيّة الجديدة، لكنّهما يختلفان في التوجه. على عكس كياروستامي الفلسفي المينيمالي، ومحسن مخملباف السياسي المتنقل بين أنماط سينمائية متعددة، يبدو بناهي أكثر تمرداً وراديكاليةً ـــــ تقنياً وفكرياً. كذلك يبدو واضحاً في طرح القضايا الاجتماعية الإيرانية، من دون اعتبار نفسه سياسياً، ويمتنع أيضاً عن وضع شخصياته أمام ثنائية الخير والشر المطلقة.
وعلى الرغم من نداءات كياروستامي والعديد من المخرجين، لم ينجُ بناهي أخيراً من الحكم القاسي بالسجن ست سنوات والمنع من العمل لعشرين عاماً. هو الذي ما انفك يتناول واقع المرأة في الجمهوريّة الإسلاميّة، وغير ذلك من القضايا الإنسانية في إيران الحديثة.

«الحياة ولا شيء أكثر ـــــ مهرجان استعادي لأعمال عبّاس كياروستامي وجعفر بناهي» : حتى 26 ك2/ يناير الحالي ـــــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (بيروت). للاستعلام: 01/204080