الرصاصة تصيب وإن كانت طائشة. قد تصيب أكثر في هذه الحالة، لكونها قدرية، ومحتومة، وغير متوقعة. هذا ما يخبرنا به فيلم جورج هاشم «رصاصة طايشة». الوصول إلى ما تقدّم يحتاج إلى تتبع سرد عائلي، منغمس حتى النخاع في سرد خصال كل فرد من أفراد العائلة. والمسعى من ذلك هو تقديم مجموعة من العلاقات الاجتماعية المأزومة، في خط تصاعدي، وصولاً إلى نهاية شخصية وعائلية، لكنّها على اتصال مباشر مع بيروت عام 1976.
كأنّ الشريط يقول لنا إنّ الحرب بدأت مع رصاصة طائشة أصابت أماً، كانت تجلس وحيدةً على شرفتها، بانتظار ابنتها الهائمة على وجهها في الشوارع. تنطلق العروض التجارية لـ«رصاصة طايشة» في الصالات اللبنانية هذا الأسبوع، بعدما جال على مهرجانات عدة، وفاز أخيراً بجائزة «المهر الذهبي» في الدورة السابعة من «مهرجان دبي السينمائي».
يتأسس فيلم هاشم على بنية ميلودرامية، ويبدأ مضطرباً في سرده. لكنّه سرعان ما يستقيم ويتضح مع نهى (نادين لبكي)، الشخصية الرئيسة في الشريط. زواج هذه الشابة هو نقطة ارتكاز العمل. كلّ ما نشهده من أحداث تدور قبل موعد زفافها من رجل لا تريده. هذا الزواج الملفّق والمدبّر وفق اتفاق عائلي، سينجّيها من مصير العنوسة. أمّا هي فعاشقة لرجل آخر، تلتقي به في ظروف خاصة، وبعيداً عن عيون الأهل، الرافضين له جملة وتفصيلاً... يكون هذا اللقاء الصلة الوحيدة لنهى، مع ما هو خارج النطاق العائلي.
يتخذ اللقاء لاحقاً منحىً عنيفاً: تكون نهى وعشيقها في غابة، حين يقعان على عناصر ميليشياويّة، تصفّي رجلاً بدم بارد. وحين يقبضون على عشيقها منزوع الأسنان ليستجوبوه عن سبب وجوده في الغابة، يبدو مستسلماً لما يمليه عليه المسلحون، وكل ما يفعله هو عدم إخبارهم بأنّ نهى كانت برفقته. يُستثمر ذلك حين تعود نهى لتلتقي بالقتلة في بيت أهلها. فالمرأة التي تقدم على تصفية الرجل السابق الذكر تكون على صلة قرابة بزوجها المستقبلي. لقاء يفتح الباب أمام منطق القتلة، وهم ينتقمون من الفلسطينيين الذين يفعلون بدورهم الأمر نفسه.
الخوف هي الكلمة المفتاح في الفيلم، إضافةً إلى العجز عن تغيير الواقع. تبقى العائلة والحبّ تحت سطوة ما يتخطّاهما. يقدّم جورج هاشم تشريحاً للعلاقات الاجتماعية كما يراها في تلك الفترة. تبقى نهى تحت رحمة التقاليد والعادات، ومن ثم تحت رحمة الأخ بوصفه الوصيّ الذكوري عليها. تتوسّع مساحات الضغط والحصار على نهى وصولاً إلى النهاية المأساوية التي ستقودها إلى مصير، يبدو كأنّه متفق عليه درامياً. يستوقفنا في فيلم «رصاصة طايشة» الإيقاع البطيء لكن المشدود والمتحفز، ما يجعل الطابع الميلودرامي، تحضيرياً لما سيأتي. تقطف النهاية ثمار التصعيد على مدى ساعة وربع، هي مدة الفيلم. كلّ ما نشهده خلال هذه المدة، يكون موتوراً، كأنّ ما من شيء إلا يتوعدنا. رغم انحراف السرد نحو العائلي، تبقى نقطة القوّة الأبرز في الشريط على صعيد السيناريو، إذ يُقدّم التاريخي بوصفه موازياً للعائلي والشخصي ـــــ على اتصال وانفصال ـــــ في تناغم بين ما يسود الشارع وما يسود البيت. كأنّ القيم العائلية المشوّهة نسخة عن الطائفية والتعسف والذكورة.
يتحوّل ثوب العرس إلى عنصر نحس. يعود هذا الثوب إلى الأخت الكبرى (تقلا شمعون)، وهي عانس تحاول تفريغ كلّ عقد عنوستها في أختها الصغرى نهى. لكنّ الثوب الذي لم تلبسه الأخت الكبرى، لن ترتديه نهى أيضاً، وحين يقدم أخوها (بديع أبو شقرا) على ضربها، تكون الرصاصة الطائشة بالمرصاد لتحصد الأم، صمام أمان العائلة. وبعد ذلك، تتوزع الشخصيات بين مستشفى المجانين، أو بلاد الاغتراب، لتتناغم مصائرها مع مصائر من عاشوا حرباً أهلية، ومع إملاءات التفكك التي طالت الوطني والعائلي.
«رصاصة طايشة» فيلم عن بشر على حافة الانفجار، في بداية حرب أهليّة لا أحد يتصوّر عند ذاك كم ستطول. انفجار سرعان ما يتحقق، جارفاً في طريقه كل شيء، ليبدأ من العائلة ولا ينتهي بالوطن. يراهن الفيلم على المصير العائلي كملتقى لما سينفصل ويتشظّى ويحتدم. أمّا مقاربته للحب، فتأتي باعتباره أزمة قبل أي شيء آخر، إذ يبدو واضحاً أنّه لا مكان للحب منذ البداية. يتحوّل الاجتماع العائلي إلى انقسام وفرقة، وتبقى الكلمة الفصل للقوة البدنية، ومنطق العضلات. وحين تنتصر نهى وتعلن تمرّدها، فإن ما ينتظرها كمصير، لن يطالها هي نفسها، بل أمها وبالتالي الوطن... بعد تلك الرصاصة، ستختار البطلة الصمت لسنوات طويلة.

ابتداءً من 20 كانون الثاني (يناير) الحالي ــــ «كونكورد» (01/343143)، «ABC الأشرفيّة» (01/209109)



من زاوية مغايرة

بعد شريط روائي قصير ووحيد حمل عام 2009 عنوان «قدّاس عشيّة»، دخل جورج هاشم باب التأليف السينمائي من بابه العريض مع «رصاصة طايشة». مؤسس «قسم الدراسات السمعيّة والبصريّة» في «الجامعة الأنطونيّة» ومديره الحالي، مخرج وممثل متمرّس، عرفناه طويلاً في ميدان المسرح. لكنّ هاشم الذي درس السينما في «معهد لوي لوميير» الباريسي، وجد طريقه إلى الفنّ السابع أخيراً. كتب نصّ فيلمه الروائي الطويل الأوّل «رصاصة طايشة» خصوصاً لتؤدي بطولته نادين لبكي. أراد أن يحكي الحرب الأهليّة اللبنانية من زاوية مغايرة لجيل كامل من السينمائيين اللبنانيين. فبعدما كانت الحرب الموضوع الأثير والأول في أعمال برهان علويّة ومارون بغدادي، يضعها هاشم في شريطه كخلفيّة، وإن كانت وطأتها قاتلة. صُوّر الشريط بواسطة كاميرا «سوبر 16»، ليحيل إلى مزاج الصور الفوتوغرافيّة والأفلام السينمائية التي كانت تصوّر في تلك الحقبة.