رواية هلال شومان (1982) الثانية مفتوحة على الكثير من الاحتمالات. ليست «الاحتمالات» التي اختارها البطل هيثم موضوعاً لأطروحته في علم الرياضيات، بل احتمالات من نوع آخر، تطال حياته ويومياته، في عالم ينصهر فيه الواقع بالخيال، حتى يصير من المستحيل تبيان الخيوط الفاصلة بينهما. يتخطّى شومان في «نابوليتانا» (دار الآداب) الأخطاء التي تشوب الروايات الأولى «ما رواه النوم» ( دار ملامح ـــــ 2008). يبتعد عن عالم الكتابة الصحافيّة والتدوين، ليخطو خطوات أكثر ثباتاً في عالم الأدب. العمل هو إحدى ثمار محترف «كيف تكتب راوية» الذي أدارته الروائية اللبنانية نجوى بركات العام الماضي. يقتصد هلال شومان في سرد التفاصيل المحيطة بشخصيته الرئيسية. اقتصاد يبدو مبرراً في كون هيثم شاباً عشرينياً انطوائياً.
لا يضع شومان هيثم في إطار عائلي، حتى إنّه لا يخلق له ماضياً أبعد من ذلك الذي عرف فيه «فتاة النابوليتانا». يرفض أن يذكر اسم صديقته القديمة التي صار يكتفي بمراقبتها مع زوجها وطفلها عبر واجهة مطعم «نابوليتانا». يقطع الطريق على سيل الحكايات الممكنة عن ماضي البطل. يبدو هيثم كأنّه بلا ذاكرة. في مطلع الرواية، يستيقظ وهو يعاني من آثار ثمالة، مع جرح في خدّه، ورسالة هاتفيّة من رقم لا يعرفه، ينبّئآنه بأنّ شيئاً ما حدث في ليلة الجمعة، تقوده خيوط تلك الليلة إلى يمنى، امرأة في مطلع الأربعين، تملأ له فجوات ذاكرته، وتنشأ بينهما علاقة جنسيّة بالدرجة الأولى.
لا نعرف عن الشاب أكثر ما يبدو أنّه يعرفه عن نفسه. هيثم يُعدّ لأطروحة الدراسات العليا في الرياضيّات، وهو يعمل أثناء ذلك في مكتبة «يافث» الجامعيّة، ويسكن وحيداً في شقّة في شارع الحمرا. لا أصدقاء له سوى أمل وهاني، وآخر افتراضي، هو جهاد، يتابع مدوّنته عبر الإنترنت. يستعمل هلال انطوائيّة هيثم ووحدته منفذاً إلى عالم الخيال، وإلى اختلاط الأمور في رأس الشاب. هيثم يربط دوماً العالم الخارجي بالمجلّات المصوّرة والأفلام، كأنّه يقوم بعمليّة الإخراج في رأسه. يقطّع المشاهد، واضعاً يمنى في الكادر الذي يريده، ويتخيّل حواراً بينهما، تتحدث فيه عن ماضيها، ليبرّر لنفسه بعدها بعضاً من تصرّفاتها. لكن تصرّفات هيثم نفسه تأخذ بالتغيّر بعد متابعته مدوّنة جهاد، إذ إنّ جهاد على عكس هيثم قادر على التعبير عن مشاعره. مثلاً، ها هو ينشر على المدوّنة لائحة خطوات للانتقام من صديقته القديمة.
تتسرّب أساليب جهاد إلى ذهن هيثم، فيجد نفسه أكثر قدرة على المواجهة. ينتقل من كونه «صبياً» لا يخيف أحداً ـــــ كما تحبّ أمل ويمنى تذكيره دوماً ـــــ إلى إنسان يريد محو هذه الصبغة عنه، وبأي طريقة ممكنة. هكذا يدخل مقهى الـ«نابوليتانا»، ويجلس إلى الطاولة المواجهة لصديقته السابقة وزوجها، ويعبّر لأمل عن حبّه لها، رغم أنّها حبيبة صديقه هاني. لاحقاً، «يغتصب» يمنى، بعدما انفجرت الأخيرة بنوبة غضب في وجهه.
في روايته الثانية، لا يحوك هلال أحداثاً كبيرة. يعمل على خلق واقع نفسي للشخصية لتكون أهم من الأحداث نفسها. فهل جهاد فعلاً موجود؟ إذ تختفي مدوّنته فجأة. من حرّض هيثم إذاً؟ هل هناك شيء يحدث أصلاً خارج غرفته؟ تبدو الرواية كلّها قائمة على الاحتمالات. احتمال ما حدث ليلة الجمعة، احتمال قراءة مدوّنة جهاد، واحتمال وجود كلّ من يمنى وأمل وهاني.