لن يكون قيس سلمان (1976) اسماً عابراً في المشهد التشكيلي السوري الجديد. تجربة هذا الفنان الشاب قوية، ودامغة، وتعبر عن حراك فني مغاير ومغامر في سوريا، يأخذ مشروعيته من لحظته الراهنة، ومن معاينته للعالم بأدوات لا تنظر كثيراً إلى الوراء، على المستوى التعبيري المحلي. إحساس يترسّخ لدى زيارة «عالم مادي»، معرضه الحالي في «غاليري أيّام» (دبي). تبدو لوحته طازجة بعدما تخلّصت من الحرفة بمعناها الأكاديمي، ومن غنائيات وتوليفات بصرية تم تجاوزها منذ زمن بعيد. ينجز قيس سلمان لوحة ذات تأثير صادم ومباشر. التأليف فيها يتقاطع مع بُعد سردي مشحون بهموم إنسانية، ونقد اجتماعي صارخ يتشابك مع الكثير من القيم السائدة. مقولته المتعقبة لانتهاك الجسد وتغريبه، ينتشلها التحوير والتنفير المتعمّد، ويأخذانها من طابع وعظي إلى شكل تعبيري يعاين القبح لا باعتباره مرادفاً للجمال أو لتذكيرنا به. القبح لدى قيس سلمان هو ظاهرة، وقيمة بحد ذاته. الكآبة التي تغرق فيها نساء بشعات مكتنزات، حقيقة اجتماعيّة. المرأة ليست نتيجة، بقدر ما هي مرآة تعكس اللحظة الاجتماعية التي ينهل منها الفنّان ويقدمها فجّة ووقحة.يبني الفنّان السوري مشاهد آتية من عوالم قاسية وعنيفة. منذ تجاربه التي تعود إلى عام 2006، ثم سلسلة «سيارة مفخخة» في عام 2007، بدت لوحته مساحة لتعبيرات شكلية وذهنية عميقة مسكونة بمخاوف وهواجس كثيرة. الصخب والمعالجات اللونية الانفعالية ذات الضربات القوية المُجهدة، تحولت تدريجاً إلى عنف نفسي. ثم انتقل سلمان، مع مجموعة أعماله التي حملت عنوان «سلسلة أزياء»، إلى فضاءات داخلية أكثر عتمة من ذي قبل، من دون أن يتخلى عن هاجس خلق فرجة بصرية فريدة تعيد الاعتبار إلى القبح. في هذه المرحلة، صارت الأوجاع منمقة، ومخفية بعناية مفتعلة. صارت أحزاناً بربطة عنق.
يعرف سلمان ماذا يريد من اللوحة. يضعها في مسافة وسيطة بين الواقع والمتخيل ليعمق من أثرها في النفس. التأثيرات البصرية اللافتة والمباشرة تستفيد بشكل أو بآخر من المفهوم اللافت للصورة أو اللوحة الإعلانية. وهو أمر يتناسب تماماً مع نظرته الساخرة والمنتقدة للاستلاب، والهوس في العلامات التجارية. سنجد في إحدى لوحاته التي يتركها غالباً من دون عنوان محدد، امرأة تقف باستكانة تامة، وإلى جانبها قطعة لحم كبيرة كتب عليها «ذبح حلال». لون المرأة لا يختلف عن لون قطعة اللحم هذه. اللحم الجاهز للبيع، يقرنه الفنان بلحم بشريّ مستلب ومنتهك. نظرة المرأة لا توحي برد فعل أو ضيق، ثمة استكانة أو ترويض. شيء يشبه غسل الدماغ. يضعنا قيس أمام ثقافة السوق، من ترويج وبيع وشراء، لكن سلعته بشرية، مدموغة بالكود الدولي الخاص بأسعار السلع التجارية.
المسافة ليست كبيرة بين معرضه السابق في دمشق «سلسلة أزياء»، ومعرضه الحالي «عالم مادي» الذي تحتضنه «غاليري أيام» في دبي. النتيجة واحدة، واللوحة لا تزال تعري المرأة، لكشف ترهلات ومستورات مخبأة بعناية فائقة، تحت هذا الكم من الملابس والعلامات التجارية. التعرية في عالم هذا الفنان ولوج إلى الداخل، نزع لقشرة خارجية مُضَللة. الظاهر والباطن، الشكل المؤثر، المناخ الاستعراضي... جميعها عناصر يوظفها سلمان في مشروع يبني عوالمه المؤرقة بأدوات تعبيرية تؤسس لمفهوم الاستلاب.
وإذا كانت رؤيته تندرج في سياق رد فعل مباشر، على وضع المرأة التي يعتبرها الضحية المجتمعية الأكثر وضوحاً، فإن طريقة إنجاز عمله الفنّي لا تبدو انفعاليّة. فهو يشحن أعماله بإيحاءات نفسية متضاربة: المستويات البصرية الضيقة، رمادياته المحايدة، الوجوه التي تعاين العالم الخارجي بجرأة، التشخصيات الساخرة والمثيرة للشفقة، تؤسس جميعها لعالم مادي تنتفي فيه الروحانيات، وتقلّنا إلى مستوى آخر من الحضور الأنثوي، ارتبط كثيراً بالطهرانية والرمزية التي تضعها في مصاف المقدس.
في لوحة ثانية بلا عنوان، تظهر ثلاث نساء في تكوين أفقي، بتبديات ملمحية واستعراضية مختلفة. السطوح المحايدة، التفاصيل اللونية الهلامية والمائعة، تضعنا أمام بروز الوجوه ذات التعبيرات المحيرة. ثم هناك ذلك الخط الأحمر المنتهي بالرقم السلعي. يصعب هنا إدراك ما تريده النساء العالقات في فضاء مستفز، نابع من توليفات بصرية تلقائية وعنيفة: الشكل غير المتناسق، الرؤوس الشاخصة، العيون غير الخجلة، الألوان البسيطة التي يباغتها بلمسات لونية فاقعة.
المعاين للوحة سلمان لن يجد صعوبة في التقاط ذلك الشبق الرعوي، والنزوات، والجوع الحسي الوافر في مناخ تُعرض فيها الشخصيات وكأننا أمام «فترينات» تتيح لنا استراق النظر، وإشباع رغبة التلصص والمتعة الآمنة، من دون الاشتباك المباشر مع ذلك العالم البدائي المُنفر.


حتى 15 كانون الثاني (يناير) ــــ «غاليري أيام» (مركز دبي العالمي للتجارة).
للاستعلام: 0097144392395
www.ayyamgallery.com