في تشرين الثاني (نوفمبر) 1974 تلقّى فيرنر هرتزوغ (1942) اتصالاً يخبره بأنّ صديقته المؤرخة السينمائية الألمانية لوته آيزنر تحتضر في باريس. صعقه النبأ، واقتنع بأنَّ الطريقة الوحيدة ليؤخر رحيلها، هي الذهاب سيراً على الأقدام من ميونيخ إلى العاصمة الفرنسيّة. أخذ معطفاً وبوصلة، وحمل حقيبته، وانطلق في رحلة شاقّة، استمرت 22 يوماً. وحين وصل إلى منزل صديقته، قال لها: «افتحي النافذة. من الآن فصاعداً، سيكون بإمكاني أن أطير». هذه الأيّام تعود تجربة المعلّم الألماني إلى الواجهة في العاصمة السوريّة، حيث يبادر فريق DOX BOX «أيام سينما الواقع» إلى تنظيم تظاهرة استعاديّة لبعض أعماله، بالاشتراك مع «المعهد الثقافي الألماني» (غوته). المهرجان السوري المستقلّ، أطلق أمس برنامجاً خاصاً بالأعمال التسجيليّة التي حققها هرتزوغ.هذا السينمائي الألماني غريب الأطوار من دون شكّ. خبراته الحياتيّة تنعكس مباشرة على سجله السينمائي. الرجل الذي ولد في ميونيخ، خاض تجاربه السينمائية الأولى بكاميرا 35 ميلليمتراً سرقها من «كليّة ميونيخ السينمائية»، وراح يموّل أفلامه من خلال العمل في أحد مصانع الحديد. عام 1978 طها حذاءه وأكله علناً بعد خسارته رهاناً أمام المخرج الأميركي إيرول موريس، ووثِّقت تلك الواقعة في فيلم قصير من إخراج لِس بلانك بعنوان «فيرنر هرتزوغ يأكل حذاءه» (1980). أخيراً، افتتح مدرسة سينما، يقتصر منهاجها على الجانب النظري، والأدب، والموسيقى، إضافةً إلى... كيفية فتح الأقفال، وتزوير تصاريح الأفلام، وحرب العصابات! يفعل فيرنر هرتزوغ كلّ هذا إلى جانب إخراجه لأعمال أوبرالية ومسرحيّة متعدّدة، وكتابة الشعر...
هرتزوغ هو أحد أهم مخرجي السينما الألمانية الجديدة، إلى جانب زميليه راينر فيرنر فاسبيندر، وفيم فيندرز. وقف هؤلاء في صف واحد مع مجموعة أوبرهاوزن، بعد إطلاقها بيانها السينمائي الشهير عام 1962، وإعلانها موت السينما الألمانيّة التجاريّة. عام 1972، أخرج هرتزوغ فيلمه «آغيريه، غضب الربّ»، عن قصة الجندي الإسباني لوبيه دي آغيريه، وتدهوره نحو الجنون في رحلته مع بعض المستعمرين الإسبان إلى الأمازون، بحثاً عن مدينة الذهب الأسطورية إلدورادو. الفيلم الذي شهد أوّل تعاون بين صاحب «دروس في العتمة» والممثل الألماني «المجنون» كلاوس كينسكي، أطلق اسم المخرج الألماني في الساحة العالمية. ما يميّز أعمال فيرنر هرتزوغ، وخصوصاً الوثائقية منها، هو ذلك الخيط الرفيع بين الحقيقة والخيال. لا يستطيع المشاهد التفريق، بين ما إذا كان هرتزوغ يوثق الواقع أم يزوره. في الحقيقة هو لا يهتم كثيراً بهذا التفريق. لكنه يؤمن بأن «هناك تلك الحقيقة الشعرية المنتشية التي لا يمكن الوصول إليها، إلا من طريق التزييف والخيال».
في أحد أهم أعماله الوثائقية «الرجل الدب» (2005)، يخبرنا قصة تيموثي تريدويل، أحد المهووسين بملاحقة الدببة الرماديّة، من خلال مشاهد صورها تريدويل، تتخللها مقابلات مع أشخاص عرفوه. بعض المشاهدين اعتقدوا أن هرتزوغ زوّر بعض المشاهد، لأنّ بعض الشخصيات تبدو غير معقولة. في الحقيقة، يركز هرتزوغ في معظم أفلامه على هذه النوعية من الشخصيات: أناس باهتمامات وقدرات غريبة، في مواقف صعبة. «حالمون محترفون»، كما يصفهم.
لهذا، تبقى أعماله عصيّة على الفهم أو التأويل. نجده ينتقد الأفلام المجردة على طريقة جان لوك غودار، ثمّ يتسلّى في تعجيز النقاد على فهم أفلامه. وحين علت أصوات الاستهجان على شريطه «دروس في العتمة» (1992) في «مهرجان برلين السينمائي»، مشيرةً إلى أنّه جمّل الحرب، وقف صارخاً في وجه الجمهور «أنتم جميعاً مخطئون!».
«أهمّ سينمائي على قيد الحياة»، كما وصفه زميله الفرنسي فرانسوا تروفو مرّة، يرفض أن يصنّفه أحد فناناً. فهو لا يجد مهنته إلا مجرّد حرفة.

حتى 27 شباط (فبراير) المقبل ـــ «معهد غوته» (دمشق). للاستعلام: 00963113719435