بمزيج من الحماسة والتروّي، تدخل فرقة «مَيَال» معترك الموسيقى العربية الأصيلة. عبد قبيسي (بزق) وجاد صليبا (عود)، يجدّان في إحياء القوالب الآلاتية الشرقية والعربية، وارتجال التقاسيم «المُرسَلة» (غير الموقّعة) التي تتخلّل الموشّحات، والقصائد، والطقاطيق، والأدوار... ناجي العريضي (رِقّ) يجتهد في ضبط الإيقاع، وتلوين وصلات الغناء والعزف. أمّا مغنّية الفرقة دلين جبّور، فتختبر حنجرتها وإحساسها الداخليّ على المسرح.
لعلّها تبحث عن مساحة أكبر للتألّق، وتواظب على توسيع حدود تعبيراتها الصوتية. حين تغنّي دلين تسكن فضاءً خارج الزمن. كأنّ صوتها معبر بين الموسيقى العربية المعاصرة من جهة، وعصر النهضة الموسيقية العربية من الجهة الأخرى. أداؤها وحضورها يذكّران بمطربات برَزْنَ في العشرينيّات من القرن الماضي. هكذا بدت جبّور في الحفلة التي أحيتها فرقة «مَيَال» الشابة أواخر العام الماضي في بيروت، عند «زيكو هاوس».
على خلفية المسرح، عُلّقت صورة شهيرة لأم كلثوم في بداياتها الفنّية، ما يعكس رغبة في تأدية مقتطفات من ريبرتوارها قبل خمسينيّات القرن الماضي، حين بدأت تقوم بعض أغنياتها على المزاوجة بين المونولوج والطقطوقة الطويلة. برنامج الحفلة تضمّن وصلتين طربيّتين على الحجاز كار، وراحة الأرواح. والمعروف أنّ الحجاز كار ينتمي إلى عائلة الحجاز، أمّا مقام راحة الأرواح، فهو مرادف للهزام (من عائلة السيكاه) على درجة «سي نصف بيمول».
اختارت الفرقة المقامات الشرقية، إسهاماً منها في إحياء الهوية الموسيقية العربية في زمن العولمة. بعد «سماعي شدّ عربان» لجميل بيك الطنبوري، وموشّح «نبّه الندمان» (مجهول المصدر)، غنّت دلين موشّح «لاح بدر التم». ثمّ أدّت مواويل وارتجالات، جامعةً بين التفخيم والترجيع والمدّ الصوتيّ. دور «يا ما انت واحشني» لعبده الحمولي، مثّل ختام الوصلة الأولى التي شملت فقرات إنشادية قصيرة للكورس (لميا يارد، ويمنى سابا)، وفواصل مرتجلة على العود والبزق. الوصلة الثانية لم تكن أقلّ عذوبة وتطريباً. بدأها قبيسي وصليبا بـ«بشرف قره بتك»، وختمتها دلين جبّور بطقطوقة «مرمر زماني» (بأسلوب مشابه لأداء الشيخ إمام عيسى). وقد تجلّت في موشّحَي «يا نحيف القوام» و«جادك الغيث»، ونالت إعجاب جمهور منوّع جمع محبّي الطرب في بيروت.
كثيراً ما تترنّم دلين، وتستعين بتقنيّات عربية تقليدية لإضفاء نكهة خاصة على الغناء. تتجنّب اللجوء إلى تقنية «صوت الرأس» voix de tête، وتمزج تقنية «صوت الصدر» voix de poitrine بالخُنّة (صوت يصدر من الخيشوم)، والصوت الحنجريّ. صوتها شجيّ وجهوريّ، ما يسمح لها بالوصول بسهولة إلى الطبقات المنخفضة، والشدو من دون استخدام مكبّرات الصوت. لا يمكن تصنيف صوتها، إذ يتأرجح بين الميتزو سوبرانو والآلتو. تتجلّى في الغناء المنفرد، رغم أنّ صوتها ينشز أحياناً، ويحتاج إلى مزيد من الطاقة في الطبقات العالية. خامتها فريدة، وأداؤها منمّق، ما يُشعر المستمع بأنّ حنجرتها معتّقة.
تضيء فرقة «مَيَال» على الموسيقى المشرقية التقليدية (فارسية، وتركية، وحلبية، ومصرية)، وتسعى إلى تعريف الجمهور اللبناني بهذا النمط الموسيقي والغنائي الذي يستند إلى نظام مقاميّ تأويليّ. وستقدّم هذه الفرقة الشابة قريباً حفلتين في «زيكو هاوس» هذا الشهر، ثم في «دوار الشمس» الشهر المقبل.

24 ك2/ يناير الحالي ـــــ «مقهى سمرا/ زيكو هاوس» (سبيرز، بيروت)
23 شباط/ فبراير المقبل، بمشاركة عازف الكمان التركي نقولا روايي ـــ «مسرح دوار الشمس» (الطيونة، بيروت)
للاستعلام: ٦٢١٤٩٠/٧٠


أربعة أشهر فقط

لم يمضِ على تأسيس فرقة «مَيَال» سوى أربعة أشهر فقط. لكنّ هذه الفرقة الشابة تعد بالكثير، ويبذل أعضاؤها من الموسيقيين الشباب جهوداً كبيرة لتطويرها وتطوير أدائهم. إضافة إلى العزف، يتخصّص عبد قبيسي وجاد صليبا في العلوم والنظريات الشرقية في كلّية الموسيقى في «الجامعة الأنطونية» (بعبدا). فيما لم تنهِ لميا يارد ويمنى سابا عامهما الدراسي الأوّل في مجال الغناء الشرقي. أمّا دلين جبور، فقد تخرّجت من المعهد الموسيقي في الجامعة نفسها، وهي محرّك أساسي في المشروع