حين تأسَّست «قهوة القزاز»، كانت مجرّد خيمة تظلّل المساحة الممتدّة بين مخفر الدرك وشجرة جميز عملاقة بجوار سوق الخضر... بعد تسعين عاماً على افتتاحها، ستقفل القهوة أبوابها الزجاجية نهائياً، لتأخذ وظيفة أخرى لم تُعلن بعد. روّاد المقهى مدعوون إلى شرب فنجان القهوة الأخير من تجمّع «أنقذوا تراث بيروت» Save Beirut Heritage عند السابعة والنصف مساء اليوم. التجمع ومعه سكان الجميزة، دعوا الجميع إلى وفقة تأبينية، تليها حفلة موسيقيّة وداعيّة، مع أدونيس، تينا يموت، Zeid and The Wings، وفرقة The White Trees. في حملتها لإنقاذ المقهى، ركزّت مجموعة Save Beirut Heritage هجومها على المستثمر الجديد للمكان، مغفلةً تاريخ المقهى الفعلي الذي لم يكمل مئويته الأولى بعد. في القرن التاسع عشر، كانت منطقة الجميزة تمتدُّ على طول شارع غورو، وتعرف بحي البيارة، لكثرة الآبار فيها.
داخل سور بيروت الكبير ببواباته السبع، ازدانت المنطقة بعدد كبير من شجر الجميز، وخصوصاً بمحاذاة الطريق المؤدية إلى مدينة طرابلس الشماليّة. الأشجار الضخمة المثمرة، طغت على «البيارة»، ليأخذ الحي اسم الجميزة مع الوقت. لكنّ تلك الأشجار راحت تختفي تدريجاً، ابتداءً من عام 1874، وفق ما يرويه الشيخ طه الولي في ذكرياته «عن أحياء بيروت بين اليوم والأمس». وكان ذلك بُعيد الاتفاق بين السلطات العثمانية وإحدى شركات التعهدات الفرنسية، لوضع المخطّط الجديد للطرق داخل سور بيروت وخارجه، وتوسيع الأسواق التجارية في القطاع القديم من العاصمة.
تُعدّ «قهوة القزاز» من معالم الجميزة، وقد افتتحت عام 1920، حين ارتأى أحد قبضايات الحي آنذاك، الأسطا باز، أن يبسط خيمةً فوق المساحة الخالية بجانب المخفر، راح يستقبل فيها أهل المنطقة، وأبناء الطبقة الشعبية من الباعة في سوق الخضر المجاورة، والعمال والحرفيين. قاومت خيمة القماش 17 عاماً قبل أن يشتري حسن الصمدي العقار الذي نصبت فيه. انصاع الصمدي لرغبة الأسطا باز الذي عرض عليه تحويل الخيمة إلى مقهى شرعي يديره بنفسه. رفع الصمدي بناءه الحديث ذا النمط الكولونيالي عام 1937، وأنشأ في طبقته الأرضية مقهى بواجهات زجاجية داخل إطارات خشبية، فولدت «قهوة القزاز»، وحافظت على شكلها، وموقعها، ووظيفتها حتى زمننا، رغم تبدل مالكيها مراراًَ خلال نصف القرن الماضي.
ذاع صيت المقهى، وصار مقصداً يومياً لأهل بيروت من أبناء الطبقة الوسطى والموظفين. لكنّ الأحوال تبدّلت عام 1947، مع إنشاء مكتب رسمي لسبق الخيل فيه. صارت تفد إليه الطبقة البرجوازية، ولم يعد احتساء القهوة والنارجيلة فيه، حكراً على الموظفين وأبناء الطبقة الشعبية. صارت «قهوة القزاز» مقصداً لمديري البنوك وموظفي الدرجة الأولى، إذ صاروا يقضون الوقت فيها بانتظار نتائج السبق، وذلك حتى إقفال مكتب السبق عام 1950، واستبداله بالمكاتب السرية.
في تلك الأثناء، كانت ملكيّة القهوة قد انتقلت إلى يوسف عبود منذ عام 1945. وكان عبود قد دفع خلواً بلغت قيمته 55 ألف ليرة لبنانية نقداً إلى الأسطا باز علماً أنّه لم يكن المالك الفعلي. ولأنّه المالك المعنوي للمقهى منذ إنشائه تحت الخيمة، فقد واظب الأسطا باز بعد بيع المكان، على الجلوس على كرسي أمام بابه، واحتساء القهوة... إلى أن دهسته شاحنة على باب المقهى، وتوفي هناك. بعد أعوام قليلة، سيطرت أجواء القبضايات على المقهى، فكان لكلّ مجموعة ركنها الخاص وطاولاتها... والويل لمن يدعى إليها ولا يلبّي.
ونتيجة لهذا الجو المشحون، حجز المكتب الثاني حصته من رجال الاستخبارات في المقهى. كانت «قهوة القزاز» في صلب الحركة السياسية، خصوصاً في عهد الرئيس كميل شمعون. وقد استعين بقبضايات القهوة لافتعال المشاكل في معركة التجديد للرئيس بشارة الخوري. كذلك لجأ «حزب الكتائب» بدوره الى استخدام المقهى في معركته ضد «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، بعدما حقق الأخير نتائج جيدة في الانتخابات البلدية عام 1949. يومها، دعا رئيس «حزب الكتائب» بيار الجميل إلى إقامة مهرجان في المقهى...
أنهت «قهوة القزاز» عصراً ذهبياً من تاريخها مع اندلاع الحرب الأهلية. إلا أنَّ روادها الأصليين واظبوا على الحضور إلى الموعد اليومي من دون التدخل في السياسة، مكتفين بلعب الورق، وشرب القهوة ممارسين لذة الكسل وقتل الوقت. عام 2001، قبل أن تتفتّح عيون المستثمرين على شارع الجميزة الهرم والهادئ، حاول كمال فغالي العارف بتاريخ المقهى إعادة تأهيله، محافظاً على الحد الأدنى من طابعه المعماري والوظائفي، من دون إهمال ما يمكن أن يغيّره الزمن من احتياجات وعادات. فكان أول مقهى يفتح في شارع الجميزة ذي الطابع السكني. بعد انتهاء عقد الإيجار عام 2006، لم يرضَ المالكون التجديد لفغالي، مفضّلين استثمار المقهى بأنفسهم، وها هم اليوم يقرّرون إقفاله... هل نرثي «قهوة القزاز» الآن أم أنّها جنازة متأخّرة لموت معلن منذ إعادة افتتاحها مطلع العقد المنتهي؟

* «وداعاً قهوة القزاز» : 7:30 مساء اليوم ــــ «مقهى الجميزة» (شارع غورو ـــ بيروت). للاستعلام: 71/319167