يفتتح الصحافي اليمني محمد محمد المقالح يومه بممارسة تمارين الدخول إلى الحياة مرةً أخرى، بعد بقائه أربعة أشهر ونصف شهر خارجها رهينة إخفاء قسري. يفعل كل شيء في نهاره كأنه يفعله للمرة الأولى. ينام متأخّراً وينهض باكراً، كأنما يريد، بتقليص زمن نومه، تعويض كل لحظة فقدها وهو في عتمة القبو الذي كان محتجَزاً فيه. تبدو رغبة إعادة ترتيب أوراق حياته واضحة حتى في أشغال الترميم والتوسيع التي تجري في بناء منزله، حيث استقبلنا معتذراً عن الفوضى التي تعمّ المكان.يبدو الصحافي المُحرَّر بهيئة أفضل من تلك التي خرج عليها بعد الإفراج عنه مباشرةً وقد فقد نصف وزنه تقريباً، لكنه ازداد حدّة في نبرة كلامه. يبدو عليه ذلك وهو يتحدث إلينا بطريقة متواصلة ليتوقف فجأةً كأنما تذكّر شيئاً.
بدأت محنة رئيس تحرير موقع «الاشتراكي نت» الإخباري المعارض، والتابع للحزب الاشتراكي اليمني، عندما نشر خبراً مرفقاً بصور قاسية في بداية الحرب السادسة بين الجيش اليمني وجماعة الحوثي، تؤكّد وقوع ضحايا مدنيّين من الأطفال والنساء في صعدة إثر غارة جوية شنّتها طائرات تابعة للجيش النظامي على سوق شعبي مكتظّ، وهو ما كانت السلطة تنفيه بشدة. لم تمر أيام حتى قام مسلحون بلباس مدني باختطافه ليلاً من وسط العاصمة. «صرخت بأعلى صوتي، لكنّ أحداً من المارة لم يتدخّل. ربما خشي هؤلاء من المسلحين، فقد كان عددهم كبيراً».
يروي محمد أنهم ظلوا يضربونه طوال الطريق، بل حشروه وهو ممدّد تحت أرجلهم حتى وصولهم إلى المكان الذي سيقيم فيه طوال فترة احتجازه، وحيث سيتواصل الاعتداء عليه بالضرب المبرّح حتى ينزف على ملابسه، التي لم يسمحوا له طوال فترة اختطافه بتغييرها. أما طريقة إيقاظه من النوم، فكانت تجري بطريقة مبتكرة «كانوا يُطلقون الرصاص بجوار رأسي». لم يكن قادراً على تحديد مكانه سوى إدراكه أنّه في منطقة مأهولة بسبب صوت الأذان والحيوانات التي كانت تصل إليه «كنت أنتظر موعد الأذان بفارغ صبر، لقد كان صلتي الوحيدة بالزمن».
تغيّرت أمور كثيرة والمقالح رهن الإخفاء القسري، وهو لا يعلم عنها شيئاً. لا جريدة تنقل إليه خبر أنّ الحرب التي يناضل لإيقافها، قد توقفت فعلاً. «لم يسمحوا لي بقراءة الصُّحف أو سماع الراديو». المرة الوحيدة التي سمحوا له فيها بمشاهدة التلفزيون كانت في يوم عيد الأضحى، وعرف بحلوله لاحقاً من الأخبار المذاعة. وبين الصور الأولى التي شاهدها، لقطة لابنته الصغرى سماء (8 سنوات) وهي تحمل صورته في اعتصام لأسرته أمام جهاز الأمن القومي في صنعاء، ضمن خبر بثته إحدى القنوات الإخبارية عن قضية اختطافه. الأسرة أدّت دوراً كبيراً في تعجيل عملية الإفراج عنه، عبر الفعاليات الاحتجاجية غير المسبوقة، ومنها الاعتصام ليلاً وسط صنعاء مع الشموع.
كثيرة هي اللحظات القاسية التي مر بها المقالح خلال فترة اختطافه، مثل الضرب الذي تعرّض له وتمكّن من وضع حدّ له، بإضرابه عن الطعام 16 يوماً متواصلاً، لكنه لا ينسى تلك المرة التي أخرجوه فيها متظاهرين بنيتهم إعدامه: «كنت معصوب العينين لكنّي أدركت ما يفعلون من خلال تهامسهم، وصوت تحريك الأسلحة النارية إلى وضعية استعداد لإطلاق نار. ثم أخبروني أنّ القرار قد صدر». عندما لاحظوا أنه أدرك ما يقومون به، من خلال جفاف شفتيه وتعرّقه ذهبوا مطلقين عبارات ساخرة. «سألوني هل تخاف، فقلت لهم: لا يوجد من لا يخاف الموت... لكن الخوف لن يغير من موقفي. اقتلوني وجرّبوا». بعد لحظات، أعادوه إلى مكانه، فتأكد أن مسألة قتله غير واردة في مخططهم: «عرفت أنهم يريدونني حياً».
كان لمحمد المقالح موقف وفكرة ثابتة من رفض العنف والحروب، اكتسبهما من والده صاحب المواقف السلميّة، ولازماه حتى انضمامه إلى تنظيمات إسلامية بدءاً من اتحاد طلاب اليمن في جامعة صنعاء، التي كانت تحت سيطرة «الإخوان المسلمين»، ثمّ عبر مساهمته في تأسيس حزب «الحق الشيعي» (مع حسين بدر الدين الحوثي، مؤسس جماعة الحوثي). استقال لاحقاً وانضمّ إلى الحزب الاشتراكي اليمني بعد هزيمة الأخير في حرب صيف 1994 بين طرفي الوحدة اليمنية. لا يجد محمد في هذه النقلة غرابة «كل هذه الكيانات تنادي بالعدالة الاجتماعية ورفع الظلم عن الفرد، وهو ما أبحث عنه طوال رحلتي».
لم يتوقف فعل التضامن مع الصحافي المشاكس يوماً واحداً، إضافةً إلى ضغط مدني تقدّمه الاتحاد الدولي للصحافيين، الذي أصدر بياناً وصف فيه قيام السلطات اليمنية باختطاف المقالح بأنّه أمر «جلب العار للبلد»، مما أجبرها في نهاية الأمر على الاعتراف بوجوده في حوزتها، وأنه سيحال على المحاكمة بتهم منها «نشر أخبار كاذبة والتواصل مع زعيم الحوثيين». وهي المحاكمة التي انتهت إلى لا شيء، لعدم ثبوت دليل واحد يدين رئيس «الاشتراكي نت». رغم سعادته بإغلاق ملف قضيته نهائياً، لا يخفي المقالح أسفه لرفض المحكمة التحقيق في مسألة خطفه، وكيف يُسمح لجهاز أمني نظامي ورسمي بتسلمه من مختطفيه: «هذا سلوك يليق بعصابة لا بدولة».
مع هذا، يؤكّد أنه لا يشعر بالحقد على خاطفيه والذين عذّبوه: «لا أحقد عليهم بالفعل. هذا شعور مريض وأنا انتصرت لنفسي ولم أنتصر على أحد». ويضيف إنّ إيقاف الحرب في صعدة أسعده كثيراً... وإنّ ما تعرّض له من عنف وتنكيل، لا يمكن أن يؤثر لحظة واحدة في موقفه الرافض للحرب.
قبل أن ننهي حديثنا، يعترف المقالح بأنه مدين باعتذار واجب لأسرته، «بسبب الأذى والألم اللذين سبّبتهما لها». ويعترف بأنّه طوال فترة اختطافه كان واثقا بأنها لن تقف متفرجة أمام ما يتعرّض له. «ما فعلته عائلتي من أجلي كان رائعاً، وخصوصاً زوجتي نوال، التي كانت محور النضال كلّه، ووصل صوتها إلى العالم، وأنا فخور بها».


5 تواريخ

1961
الولادة في قرية المقالح ـــــ اليمن

1986
إجازة من كلية الشريعة والقانون ـــــ جامعة صنعاء

2003
أصدر كتاب «من قتل جار الله عمر ـــــ الجريمة بين السياسة والدين» (دار عبادي ـــــ صنعاء)

2009
اختُطف في 25 آذار (مارس) لمدة أربعة أشهر ونصف شهر

2011
يستعد لإصدار كتاب يروي تفاصيل تجربته