«تأجّلَ ولم يُلغَ» هي العبارة الأكثر تداولاً في خريطة الثقافة السورية في هذا العام الملتهب. تأجيل وليس إلغاء، هذا ما كان يصرّح به مسؤولو المهرجانات. لكن في النهاية، لن نذهب إلى مكان. في موازاة الحرب التي تدور في المدن، خاض المثقفون حروباً طاحنة عنوانها الإقصاء والتخوين تبعاً لمواقفهم المتباينة من «الربيع السوري». ستتمزّق المؤسسات الثقافية بين الداخل والخارج باستعارة مفردة عسكرية طارئة هي «الانشقاق»: «رابطة الكتّاب السوريين» في مواجهة «اتحاد الكتّاب العرب»، والأمر عينه للتشكيليين والفنانين.
بيانات، وبيانات مضادة، وما بينهما اتهامات ناريّة طالت قامات ثقافية كانت حتى الأمس أيقونات مقدّسة. ليس أدونيس المثال الوحيد. هناك عشرات المثقفين ممن أصابتهم سهام الرّدة بطعنات متفاوتة. حالما يطأ مثقف حدود بلاد أخرى، يدلي بالبيان رقم واحد، داعياً إلى مناصرة انقلابه «العظيم» وإلا سيضع الآخرين في خندق الأعداء بتهمة التواطؤ مع نظام الاستبداد (!). في المقابل، هناك من استغلّ الفوضى الخلّاقة في الداخل لتحقيق مكاسب شخصية بإقامة مهرجانات وهميّة لا يحضرها أحد. شخصية العام بلا منازع، هي رياض عصمت، وزير الثقافة السابق الذي حجز موسم المسرح القومي باسمه، عبر 5 عروض حملت توقيعه كمؤلف ودراماتورغ. ثم التفت إلى «الهيئة العامة السورية للكتاب»، وأهداها سبعة كتب من مؤلفاته قبل أن يفقد منصبه.
من جهته، تعرّض «اتحاد الكتاب العرب» لهزّات متتالية، أبرزها انسحاب ثلاثة أعضاء من مكتبه التنفيذي، احتجاجاً على ممارسات رئيسه حسين جمعة، وتجاهله مقتل اثنين من أعضائه، هما: محمد رشيد الرويلي وإبراهيم خريط، بعدما اعتقلتهما الأجهزة في دير الزور. لكن مهلاً، ألم يصدر الاتحاد قراراً شجاعاً بفصل رفعت الأسد من عضويته؟ في المقابل، لم تسلم «رابطة الكتاب السوريين» أول مولود «ديموقراطي»، انتخبت المفكر صادق جلال العظم رئيساً لها، من الاتهامات والانسحابات، احتجاجاً على استحواذ بعض أعضائها على توجهات الرابطة وغموض تمويلها.
هكذا استبدل المثقفون خواء المشهد على الأرض بفضاء افتراضي وجدوا فيه ملاذاً للتعبير عن مواقفهم، وإذا بنا حيال مدوّنة ضخمة للسجال والعراك والمبارزة. عدا حفنة أسماء نقدية جادة، أفرزتها الانتفاضة، سنجد نصوصاً ركيكة وظلامية وطائفية، تسعى لاحتلال الواجهة بأي ثمن. من ضفةٍ أخرى، كرّمت محافل دولية أسماءً سورية أسهمت في الحراك، فحصدت سمر يزبك جائزة «هارولد بنتر» مناصفة مع الشاعرة كارول آن دافي، عن كتابها «تقاطع نيران»، ونال ياسين الحاج صالح جائزة «الأمير كلاوس»، وذهبت جائزة «مؤسسة ابن رشد» إلى رزان زيتونة، فيما فاز رسام الكاريكاتور علي فرزات بجائزة «جبران تويني». في مقابل تكريم هؤلاء، قام «مهرجان القاهرة السينمائي»، وتلاه «دبي» بمعاقبة 3 مخرجين سوريين بمنع عرض أفلامهم، هم: عبد اللطيف عبد الحميد (العاشق)، وجود سعيد (صديقي الأخير)، وباسل الخطيب (مريم) بذريعة أنّ هذه الأفلام أنتجتها جهة رسمية سورية هي «المؤسسة العامة للسينما». احتضار المشهد الثقافي تجسّد أيضاً في مهنة النشر. أغلقت معظم المطابع لعدم توفّر الورق، وبسبب وجود بعضها في المناطق الساخنة، ما أدى إلى انحسار عدد العناوين المطبوعة. إنه عام الخسارات بامتياز، أقله، لجهة الأضرار المدمّرة التي لحقت بالمواقع الأثرية وسرقة الآثار من قلعة الحصن وقلعة المضيق إلى إيبلا، وحلب القديمة، بما يذكّر بالسيناريو العراقي بعد الاحتلال الأميركي لبغداد.