باريس | في الظاهر، تبدو المبادرة التي أطلقها بوعلام صنصال و«صديقه التقدمي» دايفيد غروسمان، مثيرة وجديرة بالاهتمام. كيف يمكن لمثقف ــ أياً كانت جنسيته وتوجهاته الفكرية ــ أن يعارض إنشاء «تجمع عالمي للكتّاب من أجل السلام»، خصوصاً أنّ المبادرة أُطلقت في إطار «المنتدى العالمي للديموقراطية» الذي أُقيم في مقر «المجلس الأوروبي» في ستراسبورغ في مناسبة الاحتفال بمرور نصف قرن على المصالحة التاريخية بين فرنسا وألمانيا التي مهدت لإقامة سلام دائم في كامل القارة الأوروبية؟
في ديباجة البيان المشترك الذي تلاه صنصال وغروسمان في احتفالية خاصة رعاها عمدة ستراسبورغ، الاشتراكي رولان ريياس، لم يتردد مؤسّسا «التجمع العالمي للمثقفين من أجل السلام» في انتقاد تجربة المصالحة والسلام الأوروبية التي أقيمت بعد جراح الحرب العالمية الثانية. أعابا عليها كونها «لم تهتم سوى بالقارة الأوروبية، فيما بقية العالم ما زالت محرومة من السلام، وتواجه مخاطر شبيهة بالفظائع النازية التي عرفتها القارة العجوز». من هذا المنطلق، كان متوقعاً من المبادرة أن تشجب على قدم المساواة كل أشكال التطرف والتعصب والعدوان التي تعرقل إقامة السلام في بقاع العالم، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط التي يُفترض أن تحتل مكانة مركزية في هذه المبادرة، بوصفها مبادرة مشتركة بين كاتبين أحدهما عربي والآخر إسرائيلي، وكلاهما يتبجح بحبه للسلام ودفاعه عن قيم التآخي والعيش المشترك. لكن البيان لم يحمل أي نقد أو إدانة لسياسات العدوان الإسرائيلية التي تعيق ــ منذ ستة عقود ــ أي أفق فعلي لإقامة سلام عادل في المنطقة.
الأدهى أنّ البيان لم يكتف بمداهنة الصهيونية، بل تعمّد قلب جدلية الجلاد والضحية، ملقياً بمسؤولية المخاطر التي تهدّد «السلام» في الشرق الأوسط على «الإرهاب الإسلامي» المتنامي من فلسطين إلى إيران! والمفارقة أنّ هذا المنزلق جاء مباشرة بعد ديباجة البيان التي شجبت عدم اهتمام مساعي السلام الأوروبية التي أُطلقت بعد الحرب العالمية الثانية بنشر السلام في بقية دول العالم. تابع البيان: «مشروع السلام الذي أُطلق على إثر الفظائع النازية لم يعن سوى بالغرب. أما بقية العالم، فقد تُركت على حالها. والنتيجة أننا نواجه حالياً مخاطر مشابهة (للفظائع النازية) من خلال الزحف الفاشستي الذي ينبئ به بروز أحزاب إسلامية محكمة التنظيم». ولعل الجملة الأخيرة وحدها تكفي لفضح الخلفيات الصهيونية للبيان، فالأحزاب الفاشستية الإسلامية ـ كما يصفها البيان ـ ليست خطراً على «السلام» بسبب تطرفها أو أصوليتها المتشدّدة، بل كونها «مُحكمة التنظيم»! ما يوضح أنّ السلام المقصود في البيان إنما هو سلام اسرائيل. إذ لم يعد خافياً أنّ دولة الاحتلال تزداد مخاوفها كلما انكشفت لها قرائن جديدة عن الدقة التنظيمية المتناهية التي تدير بها المقاومة الإسلامية مواجهتها ضد الكيان الغاصب.
ويمضي بيان «التجمع العالمي للكتّاب من أجل السلام» من مفارقة إلى أخرى. لعل أغرب ما في هذا البيان أنّه لا يرقى حتى إلى «المواقف التقدمية» التي يشتهر بها دايفيد غروسمان. هذا الأخير يدافع عن «حلّ الدولتين على أساس حدود الرابع من حزيران 1967»، ويعارض سياسات الحكومة الليكودية الحالية، ويشارك في حملة فاعلة لحشد الرأي العام الإسرائيلي ضد مخططات نتنياهو الهادفة لضرب المواقع والمنشآت النووية الإيرانية. أما نصّه المشترك مع صنصال، فقد جاء خالياً من أي نقد للاحتلال أو لحكومة إسرائيل، بل بالعكس تبنى موقفاً مناقضاً تماماً في ما يتعلق بالنووي الإيراني. جاء في البيان أنّ «المعركة من أجل السلام تقتضي منع إيران من تحقيق أطماع الهيمنة التي تصبو إليها، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو الديني»، ما يشكّل تأييداً واضحاً للأطروحات الليكودية المنادية بضرب إيران.
بالطبع، لم يخل البيان من العبارة الفضفاضة الشهيرة «نطالب بإقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل»، من دون أن يوضح البيان كيف يمكن أن تقوم دولة فلسطينية ذات سيادة، إذا كان مباحاً للدولة العبرية ألا تحترم سيادة أي دولة من دول المنطقة من شأنها أن تنافس هيمنتها السياسية وجبروتها العسكري.
ورغم المآخذ المذكورة، إلا أنّ هذه المبادرة الملتبسة التي أقدم عليها عليها صنصال بعد خمسة أشهر من زيارته المثيرة للجدل إلى القدس المحتلة (راجع المقال أدناه)، لا يجب النظر إليها فقط من منطلق استهجان غالبية الأوساط الثقافية والأكاديمية في العالم العربي إقدام مثقف عربي على خطوة تطبيعية من قبيل إطلاق مبادرة سياسية مشتركة مع مثقف إسرائيلي. الأدهى أنّ الروائي الجزائري لم يكتف في بيانه مع غروسمان بتقديم تنازلات مجانية لدولة الاحتلال وللصهيونية العالمية، بل جرّ صديقه الإسرائيلي إلى تنازلات تتنافى مع المواقف المعروفة عنه في «بلاده». ولعل السرّ في ذلك أن المبادرة حملت في طياتها تنافساً غير معلن بين صنصال وغروسمان، دفع كل واحد إلى السعي لتقديم أكبر قدر من التنازلات الفكرية من أجل إرضاء الاستبلشمنت الصهيوني المهيمن على صناعة الكتاب في فرنسا. الرابط الأقوى الذي يجمع بين صنصال وغروسمان، قبل «الصداقة» التي نشأت بينهما في أيار (مايو) الماضي في القدس، وقبل شراكتهما في إطلاق «التجمع العالمي للكتّاب من أجل السلام»، يتمثل في كونهما كاتبين روائيين تفوق مبيعات كتبهما في فرنسا بعشرات الأضعاف المبيعات التي يحقّقانها في بلديهما الأصليين!