يأخذ حبيب عبد الرب سروري (1956) كثيراً من ذاكرة حياته وشريطها في رواياته. طوال هذا الشريط، نشاهد نتفاً من سيرته التي قضاها بين عدن الجنوبية اليمنية والمدن الفرنسية التي تنقّل فيها طوال حياته. غادر اليمن إلى تلك البلاد الباردة من أجل الدراسة، وحاز شهادة إجازة في التأهيل لقيادة الأبحاث الجامعية. ويبدو أنّ صاحب «دملان» لم يكن قادراً على كتابة روايته الخاصة، التي لا تتماسّ مع سيرته التي عاشها بين المدن التي عبَرها. كان عليه الانتظار طويلاً كي يكتب «تقرير الهدهد» (دار الآداب ـ 2012) ونكتشف أنّه أمسك أخيراً على مهاراته الحقيقية التي كرّسها لعمل فانتازي، تخييلي يبحث في التاريخ ويعتمد عليه في نقد هذا الزمن الحديث/ الحاضر الذي نقيم فيه. في «تقرير الهدهد»، يشتغل على فكرة تستند إلى استعادة «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، وإعادة تشكيلها على نحو يتماشى مع الأفكار التي يرغب الروائي في بعثها عبر حوارات «مقهى الكوكبة»، وهو المكان الافتراضي الذي ترتاده أهم الأسماء الفكرية والعلمية والفلسفية، التي فعلت ما كان لها على صعيد التاريخ البشري وصعدت بعدها إلى السماء: كارل ماركس، نيتشه، أبو العلاء المعري، داروين، يجلسون طوال الوقت في المقهى نفسه، ويتناقشون في أحوال البشرية والوضع البائس، وخصوصاً في المنطقة العربية، حيث تأخُّر البحث العلمي وهيمنة الفكر الأصولي الديني واحتقار كل ما له علاقة بالمدنية.
كل هذه الحوارات تجري تحت مراقبة «الأعلى جداً»، الذي يقرّر ابتعاث أبي العلاء المعرّي إلى الكرة الأرضية، وخصوصاً المنطقة العربية بغرض تقصي الحقائق ورفع تقرير نهائي عن الوضع هناك. هكذا، يكون النزول وقصة موازية أخرى تحكي سيرة أبي المعري ذاته. سرد يبحث في التاريخ بلغة طغت عليها نكهة الشعر. لا يمكن هنا إغفال اللعبة التي يسير عليها سروري، ولعبه على قصة «تقرير الهدهد» القديم، الذي كان قد جرى بعثه إلى الملك سليمان، لكن هنا لن يكون لملكة سبأ مكان، بل لحبّ أبي العلاء المعري القديم (هند) التي ذهبت من حياته بقرار مفاجئ منها من دون أن يعلم أنه قادر على الإنجاب، وأنّ له ابنة من هند سمّتها نور. لاحقاً، يدخل نبيل سليمان على خط الرواية (العمل مهدى إلى السوري نبيل سليمان). الروائي الذي ينحدر (في الرواية) من سلاسة أبي العلاء المعرّي، يحكي عن وراثته لمخطوط محفوظ في صندوق خاص من والدته. رويداً رويداً ننتقل من متاهة إلى أخرى، ومن قصة إلى أخرى.
يجد القارئ نفسه وقد دخل في مساحات كان ممكناً التخفف منها كالاستشهادات والاقتباسات الشعرية الكثيرة. ورغم نوايا الكاتب الحسنة، إلا أنّه حشا عمله بخطب وعظية تنادي بضرورة خروج العالم العربي من قيود التخلف من قبيل: «في بلد آخر، تُجلد المرأة إذا لبست بنطلوناً» أو «يفتي فقهاءُ بلدٍ آخر بترقيعِ غشاءِ البكارة، لمن فقدتْهُ قبل الزواج، لمغالطة الزوج!... متحف كوابيس!...» (المقطع مأخوذ حرفياً من الرواية بعلامات الترقيم نفسها). عند قراءة الرواية، نتذكّر الشرط الذي يقول بضرورة الفصل بين العمل الروائي المحكوم بشروط الكتابة المتخففة من كل شيء غير جماليات العمل الأدبي، والعمل الوعظي الذي يمكن كتابته في مقال... وحبيب سروري يجيد هذا النوع المقالي إجادة تامة، لكن ليكن بعيداً عن اسم الأدب.