مقتفيةً أثر الرسام البريطاني فرانسيس بيكون الذي رسم سلسلة من الوجوه والأجساد المشوّهة والمخيفة، قبل أن يلهمه موت عشيقه جورج داير في رسم بورتريهات ذاتية من النوع نفسه، تحوِّل شذى شرف الدين وجهها إلى موديل في معرضها «خفة المُشاهدَة التي لا تُحتمل» الذي اختُتم أخيراً في «غاليري أجيال». اللوحات الـ 24 هي «تمارين على صورة ذاتية»، بحسب التوصيف الفرعي لعنوان المعرض. هكذا، يصبح المعرض مشروعاً مبنياً على فكرة قريبة من الفنون الموضوعية وممارسات التجهيز التي تُطالب المتلقي عادةً بتأليف سيناريو شخصي لما يراه، أو أن يساهم في تعزيز السيناريو المقتَرح في الأعمال المعروضة. الوجوه المشوّهة هي محاكاة للوجوه المروّعة التي يُقتل أصحابها يومياً على شاشات التلفزيون. قد يكون الوضع السوري المتفجر هو النسخة الأقرب لما يُثيره المعرض من انطباعات، ولكن هذا السبب المباشر لا يحصر فكرة المعرض داخل حدث محدد.
هناك تاريخ طويل من تقنيات التشويه في الفن التشكيلي، كما أن الفنانين السوريين أنفسهم لم يتأخروا في ترجمة ما يحدث في بلدهم، بل إن بعضهم اهتدى في وقت سابق إلى هذا النوع من التعبيرات، كما هي الحال في تجربة سبهان آدم الذي عُرضت أعماله أكثر من مرة في بيروت. القصد أنّ ما نراه ليس جديداً في هذا السياق، بقدر ما يحمل من موقفٍ سياسي وإنساني تجاه عمليات القتل والعنف. كأن صاحبة «فلاش باك» تُفرغ هَولها الشخصي، وهَول الجمهور، في وجوه المعرض. كأنّ المطلوب أن نشاهد ما سبق وشاهدناه على الشاشات، ولكن بعد تخليصه من مذاق الخبر العاجل، وتحويله إلى «فن» قادر على تخليد الآلام والندوب، وجعلها «جميلة» و«مُتقنة» في الوقت نفسه. هناك نوع من المفارقة الاضطرارية في هذه الممارسة الاحتجاجية المعرّضة لفقدان نواتها وجوهرها عندما تتراءى لنا كحصيلة تقنيات فوتوغرافية تم تعريضها لفوتوشوب سلبي. لعل فكرة مثل هذه تُخرج المعرض من وظيفته المباشرة، وتمنحه حرية أوسع في التعبير عن أنواع عديدة من العنف، ولكن كوابيس القتل المستمرة تتكفل بجعل كفة الواقع أثقل من تَرَف أي انطباعات أخرى. هكذا، يستطيع المتلقي أن يتخفف من حضور الفكرة الرئيسية للمعرض، وأن ينفذ إلى التفاصيل الصغيرة التي يمكن من خلالها التفريق بين الوجوه المعروضة التي تبدو وجهاً واحداً للوهلة الأولى.
ماذا لو كان وجهي هو الذي ينكَّل به ويُعرض على الشاشات؟ من هذا التساؤل، بدأت فكرة المعرض. حضور بيكون في خلفية المعرض يمتلك وجاهة إضافية، وهو القائل «كلما ذهبتُ إلى ملحمة، فوجئتُ بأنني لست المعلّق هناك بدلاً من الحيوان». هكذا، اشتغلت شرف الدين على «ثلاثية» بيكون الشهيرة، ووضعت وجهها محل وجه جورج داير، ولكنها حرّرت فعلتها من المحاكاة التاريخية لصالح محاكاة ما يحدث الآن وهنا. هناك غضب سياسي واحتجاجي في نقل الرعب الذي تبثّه وجوه الواقع إلى وجوه المعرض التي تتشارك عمليات التنكيل والتمثيل. أحياناً يتم «تطعيج» شكل الوجه وكتلة الرأس كلها، مع عمليات التشويه الحاصلة في الفم والعيون. وأحياناً يسمح التشويه بتخمين هوية الوجه وملامحه من خلال الحفاظ على سلامة العينين أو الفم، بينما تخضع بعض الوجوه الأخرى إلى تشويه شبه كامل يترافق مع تدمير الملامح بشكل كامل، بحيث يبدو المشهد وكأنه كتلة تجريدية مصنوعة من لحم الوجوه وعظامها المحطمة. رغم ذلك، لا تُخفي التشويهات كل التعابير الإنسانية. ننتبه فجأة إلى الأسى المنبعث من عينٍ سليمة ومفتوحة إلى جوار شقيقتها المدمّاة، أو نتأمل رأساً مُخفضاً إلى الأسفل، أو فماً يذكّرنا بأشياء كثيرة لا تختصرها الفكرة المرعبة التي تقول لنا إن اسم صاحب الفم موجود في قائمة قتلى يزداد عددهم يومياً.